1187 - إن امرأ غره منكن واحدة بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
وفي خبر "كان " وجهان أحدهما : أنه "لكم " و "في فئتين " في محل رفع نعتا لآية . والثاني : أنه "في فئتين " . وفي "لكم " حينئذ وجهان ، أحدهما : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من "آية " لأنه في الأصل صفة لآية ، فلما قدم نصب حالا . والثاني : أنه متعلق بكان ، ذكره ، وهذا عند من يرى أنها تعمل في الظرف وحرف الجر ، ولكن في جعل "في فئتين " الخبر إشكال ، وهو أن حكم اسم "كان " حكم المبتدأ فلا يجوز أن يكون اسما لها [ ص: 44 ] إلا ما جاز الابتداء به ، وهنا لو جعلت "آية " مبتدأ وما بعدها خبرا لم يجز ، إذ لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة ، بخلاف ما إذا جعلت "لكم " الخبر فإنه جائز لوجود المسوغ وهو تقدم الخبر حرف جر . أبو البقاء
قوله : التقتا في محل جر صفة لفئتين أي : فئتين ملتقيتين .
قوله : فئة تقاتل العامة على رفع "فئة " وفيها أوجه ، أحدها : أن يرتفع على البدل من فاعل "التقتا " ، وعلى هذا فلا بد من ضمير محذوف يعود على "فئتين " المتقدمتين في الذكر ، ليسوغ الوصف بالجملة ، إذ لو لم يقدر ذلك لما صح ، لخلو الجملة الوصفية من ضمير ، والتقدير : في فئتين التقت فئة منهما وفئة أخرى كافرة . والثاني : أن يرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره : إحداهما فئة تقاتل ، فقطع الكلام عن أوله ، واستأنفه . ومثله ما أنشده على ذلك : الفراء
1188 - إذا مت كان الناس صنفين شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع
أي : أحدهما شامت وآخر مثن ، أي : وصنف آخر مثن ، ومثله في القطع أيضا قول الآخر :
1189 - حتى إذا ما استقل النجم في غلس وغودر البقل ملوي ومحصود
أي : بعضه ملوي وبعضه محصود . وقال أبو البقاء : "فإن قلت : فإذا قدرت في الأولى " إحداهما "مبتدأ كان القياس أن يكون والأخرى ، أي : والفئة الأخرى [ ص: 45 ] كافرة . قيل : لما علم أن التفريق هنا لنفس الشيء المقدم ذكره كان التعريف والتنكير واحدا . قلت : ومثل الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيت المتقدم : " شامت وآخر مثن "فجاء به نكرة دون " أل " .
الثالث : أن يرتفع على الابتداء وخبره مضمر تقديره : منهما فئة تقاتل ، وكذا في البيت أي : منهم شامت ومنهم مثن ، ومثله قول النابغة :
1190 - توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
تقديره : منهن أي : ومن الآيات رماد ، ومنهن نؤي ، ويحتمل البيت أن يكون كما تقدم من تقديره مبتدأ ، و "رماد " خبره كما تقدم في نظيره .
وقرأ الحسن ومجاهد وحميد : "فئة تقاتل " بالجر على البدل من "فئتين " ، ويسمى هذا البدل بدلا تفصيلا كقول كثير عزة :
1191 - وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت
وهو بدل بعض من كل ، وإذا كان كذلك فلا بد من ضمير يعود على المبدل منه تقديره : فئة منهما .
وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة "فئة " نصبا . وفيه أربعة أوجه ، أحدها : النصب بإضمار أعني . والثاني : النصب على المدح . وتحرير هذا القول أن يقال على المدح في الأول ، وعلى الذم في الثاني ، وكأنه قيل : أمدح [ ص: 46 ] فئة تقاتل في سبيل الله ، وأذم أخرى كافرة . الثالث : أن ينتصب على الاختصاص جوزه الزمخشري . قال الشيخ : "وليس بجيد ؛ لأن المنصوب [على الاختصاص ] لا يكون نكرة ولا مبهما " قلت : لا يعني الزمخشري الاختصاص المبوب له في النحو نحو "نحن معاشر الأنبياء لا نورث " إنما عنى النصب بإضمار فعل لائق ، وأهل البيان يسمون هذا النحو اختصاصا . الرابع : أن تنتصب "فئة " على الحال من فاعل "التقتا " كأنه قيل : التقتا مؤمنة وكافرة ، فعلى هذا يكون "فئة " و "أخرى " توطئة للحال ، لأن المقصود ذكر وصفها ، وهذا كقولهم : جاءني زيد رجلا صالحا ، ومثله في باب الإخبار : بل أنتم قوم مسرفون ونحوه .
قوله : وأخرى كافرة "أخرى " : صفة لموصوف محذوف تقديره : "وفئة أخرى كافرة " . وقرئت "كافرة " بالرفع والجر على حسب القراءتين المذكورتين في "فئة تقاتل " ، وهذه منسوقة عليها ، وكان من حق من قرأ "فئة تقاتل " نصبا أن يقرأ : "وأخرى كافرة " نصبا عطفا على الأولى ، ولكني لم أحفظ فيها ذلك . وفي عبارة الزمخشري ما يوهم القراءة به فإنه قال : "وقرئ فئة تقاتل وأخرى كافرة بالجر على البدل من فئتين ، وبالنصب على الاختصاص أو الحال " ، فظاهر قوله : "وبالنصب " [أي : في جميع ما تقدم وهو : فئة تقاتل وأخرى كافرة ] . وقد تقدم سؤال أبي البقاء وهو : لم يقل "والأخرى " [ ص: 47 ] بالتعريف ، أعني حال رفع "فئة تقاتل " على خبر ابتداء مضمر تقديره : "إحداهما " ، والجواب عنه .
والعامة على "تقاتل " بالتأنيث لإسناد الفعل إلى ضمير المؤنث ، ومتى أسند إلى ضمير المؤنث وجب تأنيثه ، سواء كان التأنيث حقيقة أم مجازا نحو : "الشمس طلعت " هذا جمهور الناس عليه ، وخالف ابن كيسان فأجاز : "الشمس طلع " مستشهدا بقول الشاعر :
1192 - فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
فقال : "أبقل " وهو مسند لضمير الأرض ولم يقل : أبقلت ، وغيره يخصه بالضرورة . وقال هو : "لا ضرورة إذ كان يمكن أن ينقل حركة الهمزة على تاء التأنيث الساكنة فيقول : ولا أرض أبقلت إبقالها . وقد ردوا عليه بأن الضرورة ليس معناها ذلك ، ولئن سلمنا ذلك فلا نسلم أن هذا الشاعر كان من لغته النقل ، لأن النقل ليس لغة لكل العرب .
وقرأ مجاهد ومقاتل : " يقاتل "بالياء من تحت ، وهي مخرجة على مذهب ابن كيسان ومقوية له . قالوا : والذي حسن ذلك كون " فئة "في معنى القوم والناس ؛ فلذلك عاد الضمير عليها مذكرا .
قوله : يرونهم قرأ نافع وحده من السبعة ويعقوب وسهل : " ترونهم "بالخطاب ، والباقون من السبعة بالغيبة . فأما قراءة نافع ففيها ثمانية أوجه ، [ ص: 48 ] أحدها : أن الضمير في " لكم "والمرفوع في " ترونهم "للمؤمنين ، والضمير المنصوب في " ترونهم "والمجرور في " مثليهم "للكافرين . والمعنى : قد كان لكم أيها المؤمنون آية في فئتين بأن رأيتم الكفار مثلي أنفسهم في العدد وهو أبلغ في القدرة حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عدد الكافرين ، ومع ذلك انتصروا عليهم وغلبوهم وأوقعوا بهم الأفاعيل . ونحوه : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله واستبعد بعضهم هذا التأويل لقوله تعالى في الأنفال : وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ، فالقصة واحدة ، وهناك تدل الآية على أن الله تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين لئلا يجبنوا عنه ، وعلى هذا التأويل المذكور هنا يكون قد كثرهم في أعينهم . ويمكن أن يجاب عنه باختلاف حالين ، وذلك أنه في وقت أراهم إياهم مثلي عددهم ليمتحنهم ويبتليهم ، ثم قللهم في أعينهم ليقدموا عليهم ، فالإتيان باعتبارين ومثله : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان مع : فوربك لنسألنهم أجمعين ، ولا يكتمون الله حديثا مع : هذا يوم لا ينطقون . وقال الفراء : " المراد بالتقليل التهوين كقولك : "رأيت كثيرهم قليلا " لهوانهم عندك ، وليس من تقليل العدد في شيء " .
الثاني : أن يكون الخطاب في " ترونهم "للمؤمنين أيضا ، والضمير المنصوب في " ترونهم "للكافرين أيضا ، والضمير المجرور في " مثليهم " [ ص: 49 ] للمؤمنين ، والمعنى : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي عدد أنفسكم ، وهذا تقليل للكافرين عند المؤمنين في رأي العين ، وذلك أن الكفار كانوا ألفا ونيفا والمسلمون على الثلث منهم ، فأراهم إياهم مثليهم ، على ما قرر عليهم من مقاومة الواحد للاثنين في قوله تعالى : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين
بعد ما كلفوا أن يقاوم واحد العشرة في قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين . قال الزمخشري : "وقراءة نافع لا تساعد عليه " يعني على هذا التأويل المذكور ، ولم يبين وجه عدم المساعدة ، وكأن الوجه في ذلك - والله أعلم - أنه كان ينبغي أن يكون التركيب : "ترونهم مثليكم " بالخطاب في "مثليكم " لا بالغيبة . وقال أبو عبد الله الفاسي - بعد ما ذكرته عن الزمخشري - : "قلت : بل يساعد عليه إن كان الخطاب في الآية للمسلمين ، وقد قيل ذلك " انتهى ، فلم يأت أبو عبد الله بجواب ، إذ الإشكال باق .
وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجوابين ، أحدهما : أنه من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وأن حق الكلام : "مثليكم " بالخطاب ، إلا أنه التفت إلى الغيبة ، ونظره بقوله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم . والثاني : أن الضمير في "مثليهم " وإن كان المراد به المؤمنين إلا أنه عاد على قوله : فئة تقاتل في سبيل الله ، والفئة المقاتلة هي عبارة عن المؤمنين المخاطبين ، والمعنى : ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله ، فكأنه قيل : ترونهم أيها المؤمنون مثليكم . وهو جواب حسن ومعنى واضح .
[ ص: 50 ] الثالث : أن يكون الخطاب في "لكم " وفي "ترونهم " للكفار ، وهم قريش ، والضمير المنصوب والمجرور للمؤمنين ، أي : قد كان لكم أيها المشركون آية حيث ترون المؤمنين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون قد كثرهم في أعين الكفار ليجبنوا عنهم ، فيعود السؤال المذكور بين هذه الآية وآية الأنفال ، وهي قوله تعالى : ويقللكم في أعينهم ، فكيف يقال هنا إنه كثرهم فيعود الجواب بما تقدم من اختلاف حالتين ، وهو أنه قللهم أولا ليجترئ عليهم الكفار ، فلما التقى الجمعان كثرهم في أعينهم ليحصل لهم الخور والفشل .
الرابع : كالثالث ، إلا أن الضمير في "مثليهم " يعود على المشركين فيعود ذلك السؤال ، وهو أنه كان ينبغي أن يقال "مثليكم " ليتطابق الكلام فيعود الجوابان وهما : إما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وإما عوده على لفظ الفئة الكافرة ، لأنها عبارة عن المشركين ، كما كان ذلك الضمير عبارة عن الفئة المقاتلة ، ويكون التقدير : ترون أيها المشركون المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة ، وعلى هذا فيكونون قد رأوا المؤمنين مثلي أنفس المشركين ألفين ونيفا ، وهذا مدد من الله تعالى ، حيث أرى الكفار المؤمنين مثلي عدد المشركين حتى فشلوا وجبنوا ، فطمع المسلمون فيهم فانتصروا عليهم ، ويؤيده : والله يؤيد بنصره من يشاء فالإراءة هنا بمنزلة المدد بالملائكة في النصرة بكليهما ، ويعود السؤال حينئذ بطريق الأولى : وهو كيف كثرهم إلى هذه الغاية مع قوله في الأنفال : ويقللكم في أعينهم ؟ ويعود الجواب .
الخامس : أن الخطاب في "لكم " و "ترونهم " لليهود ، والضميران المنصوب والمجرور على هذا عائدان على المسلمين على معنى : ترونهم لو رأيتموهم مثليهم ، وفي هذا التقدير تكلف لا حاجة إليه ، وكأن هذا القائل [ ص: 51 ] اختار أن يكون الخطاب في الآية المنقضية وهي قوله : قد كان لكم لليهود ، فجعله في "ترونهم " لهم أيضا ، ولكن الخروج من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أولى من هذا التقدير المتكلف ، لأن اليهود لم يكونوا حاضري الوقعة حتى يخاطبوا برؤيتهم لهم كذلك . ويجوز على هذا القول أن يكون الضميران المنصوب والمجرور عائدين على الكفار ، أي : إنهم كثر في أعينهم الكفار حتى صاروا مثلي عدد الكفار ، ومع ذلك غلبهم المؤمنون وانتصروا عليهم ، فهو أبلغ في القدرة . ويجوز أن يعود المنصوب على المسلمين والمجرور على المشركين ، أي : ترون أيها اليهود المسلمين مثلي عدد المشركين مهابة لهم وتهويلا لأمر المؤمنين ، كما كان ذلك في حق المشركين فيما تقدم من الأقوال . ويجوز أن يعود المنصوب على المشركين والمجرور على المسلمين ، والمعنى : ترون أيها اليهود لو رأيتم المشركين مثلي عدد المسلمين ، وذلك أنهم قللوا في أعينهم ليحصل لهم الفزع والغم ؛ لأنه كان يغمهم قلة الكفار ويعجبهم كثرتهم ونصرتهم على المسلمين حسدا وبغيا فهذه ثلاثة أوجه مترتبة على الوجه الخامس ، فتصير ثمانية أوجه في قراءة نافع .
وأما قراءة الباقين ففيها أوجه ، أحدها : أنها كقراءة الخطاب ، فكل ما قيل في المراد به الخطاب هناك قيل به هنا ، ولكنه جاء على باب الالتفات أي : التفات من خطاب إلى غيبة . الثاني : أن الخطاب في "لكم " للمؤمنين ، والضمير المرفوع في "يرونهم " للكفار ، والمنصوب والمجرور للمسلمين ، والمعنى : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين ستمائة ونيفا وعشرين ، أراهم الله مع قلتهم إياهم ضعفيهم ليهابوهم ويجبنوا عنهم . الثالث : أن الخطاب في "لكم " للمؤمنين أيضا ، والمرفوع في "يرونهم " للكفار ، والمنصوب للمسلمين والمجرور للمشركين ، أي : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين ، أراهم الله المؤمنين أضعافهم لما تقدم في الوجه قبله .
[ ص: 52 ] الرابع : أن يعود الضمير المرفوع في "يرونهم " على الفئة الكافرة ؛ لأنها جمع في المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين أو المسلمين أو أحدهما لأحدهم .
والذي تقوى في هذه الآية من جميع ما قدمته من حيث المعنى أن يكون مدار الآية على تقليل المسلمين وتكثير الكافرين ، لأن مقصود الآية ومساقها الدلالة على قدرة الله الباهرة وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم وخذلان الكافرين مع كثرة عددهم ، وتحزبهم ، ليعلم أن النصر كله من عند الله ، وليس سببه كثرتكم وقلة عدوكم ، بل سببه ما فعله تبارك وتعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم ، ويؤيده قوله بعد ذلك : والله يؤيد بنصره من يشاء وقال في موضع آخر : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا . قال الشيخ أبو شامة - بعد ذكره هذا المعنى وجعله قويا - : "فالهاء في ترونهم للكفار سواء قرئ بالغيبة أم بالخطاب والهاء في " مثليهم "للمسلمين . فإن قلت : إن كان المراد هذا فهلا قيل : يرونهم ثلاثة أمثالهم . فكان أبلغ في الآية ، وهي نصر القليل على هذا الكثير ، والعدة كانت كذلك أو أكثر . قلت : أخبر عن الواقع ، وكان آية أخرى مضمومة إلى آية البصر ، وهي تقليل الكفار في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه ، وهو أن الواحد من المسلمين يغلب الاثنين ، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا ، وفيه فائدة : وقوع ما ضمن لهم من النصر فيه " انتهى . قلت : وإلى هذا المعنى ذهب الفراء ، أعني أنهم يرونهم ثلاثة أمثالهم ، فإنه قال : "مثليهم : ثلاثة أمثالهم ، كقول القائل : " عندي ألف وأنا محتاج إلى [ ص: 53 ] مثليها " . وغلطه أبو إسحق في هذا ، وقال : " مثل الشيء ما ساواه ، ومثلاه ما ساواه مرتين " . قال ابن كيسان : " الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا يوم بدر ثلاثة أمثالهم ، فتوهم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم ، والمعنى ليس عليه ، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين ، إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ؛ لأن المؤمنين [تقوى قلوبهم بذلك ، والأخرى ] أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم .
والجملة على قراءة نافع تحتمل أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون لها محل ، وفيه حينئذ وجهان ، أحدهما : النصب على الحال من "كم " في "لكم " أي : قد كان لكم حال كونكم ترونهم . والثاني : الجر نعتا لفئتين ، لأن فيها ضميرا يرجع عليهما ، قاله أبو البقاء .
وأما على قراءة الغيبة فتحتمل الاستئناف ، وتحتمل الرفع صفة لإحدى الفئتين ، وتحتمل الجر صفة لفئتين أيضا ، على أن تكون الواو في "يرونهم " ترجع إلى اليهود ، لأن في الجملة ضميرا يعود على الفئتين .
وقرأ ابن عباس وطلحة "ترونهم " مبنيا للمفعول على الخطاب . والسلمي كذلك ، إلا أنه بالغيبة . وهما واضحتان مما تقدم تقريره ، والفاعل المحذوف هو الله تعالى .
وللناس في الرؤية هنا رأيان ، أحدهما : أنها البصرية ، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر الذي هو نص في ذلك . فهو مصدر مؤكد . قال [ ص: 54 ] الزمخشري : "رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها " وعلى هذا فتتعدى لواحد ، و "مثليهم " نصب على الحال . والثاني : أنها من رؤية القلب ، فعلى هذا يكون "مثليهم " مفعولا ثانيا .
وقد رد أبو البقاء هذا فقال : "ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب على كل الأقوال لوجهين ، أحدهما : قوله " رأي العين " ، والثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يعلم الشيء شيئين " . وقد أجيب عن الوجه الأول بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي أي : رأيا مثل رأي العين ، أي : يشبه رأي العين ، فليس إياه على التحقيق . وعن الثاني بأن الرؤية هنا يراد بها الاعتقاد ، فلا يلزم المحال المذكور ، قال : "وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الاعتقاد دون اليقين فلأن يطلقوا عليه الرأي أولى " .
ومن إطلاق العلم على الاعتقاد قوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات ؛ إذ لا سبيل إلى العلم اليقيني في ذلك ، إذ لا يعلمه كذلك إلا الله تعالى ، فالمعنى : فإن اعتقدتموهن ، والاعتقاد قد يكون صحيحا ، وقد يكون فاسدا ، ويدل على هذا التأويل قراءة من قرأ : "ترونهم " أو "يرونهم " بالتاء أو الياء مبنيا للمفعول ؛ لأن قولهم "أري كذا " بضم الهمزة يكون فيما عند المتكلم فيه شك وتخمين لا يقين وعلم ، ولما كان اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو في جمع المؤمنين تخمينا وظنا لا يقينا دخل الكلام ضرب من الشك ، وأيضا كما يستحيل حمل الرؤية هنا على العلم يستحيل أيضا حملها على رؤية البصر بعين ما ذكرتم من المحال ، وذلك كما أنه لا يقع [ ص: 55 ] العلم غير مطابق للمعلوم كذلك لا يقع النظر البصري غير مطابق لذلك الشيء المبصر المنظور إليه ، فكان المراد التخمين والظن لا اليقين والعلم . كذا قيل ، وفيه نظر لأنا لا نسلم أن البصر لا يخالف المبصر ، لجواز أن يحصل خلل فيه وسوء في النظر فيتخيل الباصر الشيء شيئين فأكثر وبالعكس .
وفي انتصاب "رأي العين " ثلاثة أوجه تقدم منها اثنان : النصب على المصدر التوكيدي أو النصب على المصدر التشبيهي كما عرفت تحقيقه . والثالث : أنه منصوب على ظرف المكان ، قال الواحدي : "كما تقول : " ترونهم أمامكم "ومثله : " هو مني مزجر الكلب ومناط العيوق " ، وهذا إخراج للفظ عن موضوعه مع عدم المساعد معنى وصناعة .
و " رأى "مشترك بين " رأى "بمعنى أبصر ، ومصدره الرأي والرؤية ، وبمعنى اعتقد وله الرأي ، وبمعنى الحلم وله الرؤيا كالدنيا ، فوقع الفرق بالمصدر ، فالرؤية للبصر خاصة ، والرؤيا للحلم فقط ، والرأي مشترك بين البصرية والاعتقادية يقال : هذا رأي فلان أي : اعتقاده ، قال :
1193 - رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه خوارج تراكين قصد المخارج
قلت : وهذه الآية قد أكثر الناس فيها القول فتتبعته وقرنت كل شيء بما يلائمه .
قوله : من يشاء مفعول " يشاء "محذوف أي : من يشاء تأييده ، والباء سببية ، أي : بسبب تأييده وهو تفعيل من الأيد وهو القوة .
وقرأه ورش "يويد " بإبدال الهمزة واوا محضة وهو تسهيل قياسي قال [ ص: 56 ] أبو البقاء وغيره "ولا يجوز أن تجعل بين بين لقربها من الألف ، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا ، ولذلك لم تجعل الهمزة المبدوء بها بين بين لاستحالة الابتداء بالألف " . قلت : مذهب سيبويه وغيره في الهمزة المفتوحة بعد كسرة قلبها ياء محضة وبعد الضمة قلبها واوا محضة للعلة المذكورة ، وهي قرب الهمزة التي بين بين من الألف ، والألف لا تكون ضمة ولا كسرة .
و لأولي الأبصار صفة لـ "عبرة " أي : عبرة كائنة لأولي الأبصار . والعبرة : فعلة من العبور كالركبة والجلسة ، والعبور : التجاوز ، ومنه : عبرت النهر ، والمعبر : السفينة لأن بها يعبر إلى الجانب الآخر ، وعبرة العين : دمعها لأنها تجاوزها ، وعبر بالعبرة عن الاتعاظ والاستيقاظ لأن المتعظ يعبر من الجهل إلى العلم ومن الهلاك إلى النجاة . والاعتبار افتعال منه ، والعبارة : الكلام الموصل إلى الغرض لأن فيه مجاوزة ، وعبرت الرؤيا وعبرتها مخففا ومثقلا ، لأنك نقلت ما عندك من تأويلها إلى رائيها .