وقوله: "فاتقوا" جواب الشرط، ويكون قوله: "ولن تفعلوا" جملة معترضة بين الشرط وجزائه.
وقال جماعة من المفسرين: معنى الآية: وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، ولن تفعلوا، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار، وفيه نظر لا يخفى.
وإنما قال تعالى: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فعبر بالفعل عن الإتيان؛ لأن الفعل يجري مجرى الكناية، فيعبر به عن كل فعل ويغني عن طول ما تكني به.
وقال : "لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله". الزمخشري
قال الشيخ: "ولا يلزم ما قال؛ لأنه لو قال: "فإن لم تأتوا ولن تأتوا" كان المعنى على ما ذكر، ويكون قد حذف ذلك اختصارا، كما حذف اختصارا مفعول: لم تفعلوا ولن تفعلوا ألا ترى أن التقدير: فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله، ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله".
و"لن" حرف نصب معناه نفي المستقبل، ويختص بصيغة المضارع كـ"لم "، ولا يقتضي نفيه التأبيد، وليس أقل مدة من نفي لا، ولا نونه بدلا من [ ص: 204 ] ألف لا، ولا هو مركبا من "لا أن" خلافا وزعم قوم أنها قد تجزم، منهم للخليل، وأنشدوا: أبو عبيدة
277 - لن يخب لان من رجائك من حر رك من دون بابك الحلقه
وقال النابغة:
278 - . . . . . . . . . . . . . . . فلن أعرض أبيت اللعن بالصفد
ويمكن تأويل ذلك بأنه مما سكن فيه للضرورة.
قوله تعالى: فاتقوا النار هذا جواب الشرط كما تقدم، والكثير في لغة العرب: "اتقى يتقي" على افتعل يفتعل، ولغة تميم وأسد: تقى يتقي مثل: رمى يرمي، فيسكنون ما بعد حرف المضارعة، حكى هذه اللغة ، ومنهم من يحرك ما بعد حرف المضارعة، وأنشدوا: سيبويه
279 - تقوه أيها الفتيان إني رأيت الله قد غلب الجدودا
[ ص: 205 ] وقال آخر:
280 - . . . . . . . . . . . . . . تق الله فينا والكتاب الذي تتلو
قوله تعالى: النار مفعول به، و"التي" صفتها، وفيها أربع اللغات المتقدمة، كقوله:
281 - شغفت بك اللت تيمتك فمثل ما بك ما بها من لوعة وغرام
وقال آخر:
282 - فقل للت تلومك إن نفسي أراها لا تعوذ بالتميم
وقوله: وقودها الناس جملة من مبتدأ وخبر صلة وعائد، والألف واللام في "النار" للعهد لتقدم ذكرها في سورة (التحريم) وهي مكية عند قوله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا .
والمشهور فتح واو الوقود، وهو اسم ما يوقد به، وقيل: هو مصدر كالولوع والقبول والوضوء والطهور.
ولم يجئ مصدر على فعول غير هذه الألفاظ فيما حكاه . سيبويه
وزاد الوزوع، وقرئ شاذا في سورة [ ص: 206 ] (ق) الكسائي: وما مسنا من لغوب فتصير سبعة، وهناك ذكرت هذه القراءة، ولكن المشهور أن الوقود والوضوء والطهور بالفتح اسم وبالضم مصدر، وقرئ شاذا بضمها وهو مصدر.
وقال : "وقد حكيا جميعا في الحطب، وقد حكيا في المصدر" انتهى، فإن أريد اسم ما يوقد به فلا حاجة إلى تأويل، وإن أريد بهما المصدر فلا بد من تأويل، وهو: إما المبالغة أي جعلوا نفس التوقد مبالغة في وصفهم بالعذاب، وإما حذف مضاف: إما من الأول أي أصحاب توقدها، وإما من الثاني أي: يوقدها إحراق الناس، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ابن عطية
والهاء في الحجارة لتأنيث الجمع.
قوله تعالى: أعدت فعل ما لم يسم فاعله، والقائم مقام الفاعل ضمير "النار" والتاء واجبة؛ لأن الفعل أسند إلى ضمير المؤنث، ولا يلتفت إلى قوله:
[ ص: 207 ]
283 - فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
لأنه ضرورة خلافا لابن كيسان.
و"للكافرين" متعلق به، ومعنى أعدت: هيئت، قال:
284 - أعددت للحدثان سا بغة وعداء علندى
وقرئ: "أعتدت" من العتاد بمعنى العدة.
وهذه الجملة الظاهر أنها لا محل لها لكونها مستأنفة جوابا لمن قال: لمن أعدت؟ وقال : "محلها النصب على الحال من "النار"، والعامل فيها اتقوا". أبو البقاء
قيل: وفيه نظر فإنها معدة للكافرين اتقوا أم لم يتقوا، فتكون حالا لازمة، لكن الأصل في الحال التي ليست للتوكيد أن تكون منتقلة، فالأولى أن تكون استئنافا.
قال : "ولا يجوز أن تكون حالا من الضمير في "وقودها" لثلاثة أشياء: أبو البقاء
أحدها: أنها مضافا إليها.
الثاني: أن الحطب لا يعمل، يعني أنه اسم جامد.
الثالث: الفصل بين المصدر أو ما يعمل [ ص: 208 ] عمله وبين ما يعمل فيه بالخبر وهو "الناس"، يعني أن الوقود بالضم وإن كان مصدرا صالحا للعمل فلا يجوز ذلك أيضا؛ لأنه عامل في الحال وقد فصلت بينه وبينها بأجنبي وهو "الناس".
وقال السجستاني: أعدت للكافرين من صلة "التي" كقوله: واتقوا النار التي أعدت للكافرين قال "وهذا غلط لأن "التي" هنا وصلت بقوله: ابن الأنباري: وقودها الناس فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية، بخلاف التي في (آل عمران).
قلت: ويمكن ألا يكون غلطا؛ لأنا لا نسلم أن وقودها الناس - والحالة هذه - صلة، بل إما معترضة لأن فيها تأكيدا وإما حالا، وهذان الوجهان لا يمنعهما معنى ولا صناعة.