1291 - لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
أي : برسالة ، وقال آخر :
1292 - أبلغ أبا سلمى رسولا تروعه ... ... ... ...
أي : أبلغه رسالة ، ومنه قوله تعالى : إنا رسول رب العالمين على أحد التأولين ، أي : إنا ذوا رسالة رب العالمين ، وعلى الوجهين يترتب الكلام في إعراب "رسول " :
فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجه ، أحدها : أن يكون معطوفا على " يعلمه " إذا أعربناه حالا معطوفا على "وجيها " إذ التقدير : وجيها ومعلما ومرسلا ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : "وهو مبني على [ ص: 187 ] إعراب " ويعلمه " ، وقد بينا ضعف إعراب من يقول إن " ويعلمه "معطوف على " وجيها "للفصل المفرط بين المتعاطفين " . وابن عطية
الثاني : أن يكون نسقا على "كهلا " الذي هو حال من الضمير المستتر في "ويكلم " أي : يكلم الناس طفلا وكهلا ومرسلا إلى بني إسرائيل ، جوز ذلك . واستبعده الشيخ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه . قلت : ويظهر أن ذلك لا يجوز من حيث المعنى ، إذ يصير التقدير : يكلم الناس في حال كونه رسولا إليهم ، وهو إنما صار رسولا بعد ذلك بأزمنة ، فإن قيل : هي حال مقدرة كقولهم : "مررت برجل معه صقر صائدا به غدا " وقوله : ابن عطية فادخلوها خالدين ، قيل : الأصل في الحال أن تكون مقارنة ، ولا تكون مقدرة إلا حيث لا لبس .
الثالث : أن يكون منصوبا بفعل مضمر لائق بالمعنى ، تقديره : ونجعله رسولا ، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملا يناسبه ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان وقوله :
1293 - يا ليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا
وقول الآخر :
1294 - علفتها تبنا وماء باردا ... ... ... ...
[ ص: 188 ] وقوله :
1295 - ... ... ... ... وزججن الحواجب والعيونا
أي : واعتقدوا الإيمان ، ومعتقلا رمحا ، وسقيتها ماء باردا ، وكحلن العيون ، وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة .
الرابع : أن يكون منصوبا بإضمار فعل من لفظ "رسول " ، ويكون ذلك الفعل معمولا لقول مضمر أيضا هو من قول عيسى .
الخامس : أن الرسول فيه معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقا بأني قد جئتكم . ويوضح هذين الوجهين الأخيرين ما قاله ، قال رحمه الله : "فإن قلت : علام تحمل " ورسولا ومصدقا "من المنصوبات المتقدمة ، وقوله : الزمخشري أني قد جئتكم و لما بين يدي يأبى حمله عليها ؟ قلت : هو من المضايق ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن تضمر له " وأرسلت "على إرادة القول ، تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ويقول : أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ومصدقا لما بين يدي . والثاني : أن الرسول والمصدق فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقا بأني قد جئتكم ومصدقا لما بين يدي "انتهى . إنما احتاج إلى إضمار ذلك كله تصحيحا للمعنى واللفظ ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات لا يصح عطفه عليه في الظاهر ؛ لأن الضمائر المتقدمة غيب ، [ ص: 189 ] والضميران المصاحبان لهذين المنصوبين للمتكلم ، فاحتاج إلى ذلك التقدير لتتناسب الضمائر . قال الشيخ : " وهذا الوجه ضعيف ؛ إذ فيه إضمار شيئين : القول ومعموله الذي هو "أرسلت " ، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة ، إذ يفهم من قوله "وأرسلت " أنه رسول فهي حال مؤكدة " . واختار الشيخ الوجه الثالث قال : " إذ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى ، ويكون قوله : أني قد جئتكم معمولا لرسول أي : ناطقا بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور .
السادس : أن يكون حالا من مفعول "ويعلمه " وذلك على زيادة الواو ، كأنه قيل : ويعلمه الكتاب حال كونه رسولا ، قاله ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو ، وهو مذهب مرجوح . الأخفش
وعلى الثاني في نصبه وجهان ، أنه مفعول به عطفا على المفعول الثاني ليعلمه أي : ويعلمه الكتاب ورسالة أي : يعلمه الرسالة أيضا ، والثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، وفيه التأويلات المشهورة في : رجل عدل .
وقرأ : "ورسول " بالجر ، وخرجها اليزيدي على أنها منسوقة على قوله : "بكلمة " أي : نبشرك بكلمة وبرسول . وفيه بعد لكثرة الفصل بين المتعاطفين ، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج . الزمخشري
[ ص: 190 ] وقوله : إلى بني إسرائيل فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بنفس "رسولا " إذ فعله يتعدى بإلى ، والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لرسولا ، فيكون منصوب المحل في قراءة الجمهور ، مجروره في قراءة . اليزيدي
قوله : أني قد جئتكم قرأ العامة : "أني " بفتح الهمزة وفيها ثلاثة أوجه : أحدهما : أن موضعها جر بعد إسقاط الخافض ، إذ الأصل : بأني ، فـ "بأني " متعلق برسولا ، وهذا مذهب الشيخين : الخليل . والثاني : أن موضعها نصب ، وفيه ثلاثة أوجه ، الأول : أنه نصب بعد إسقاط الخافض ، وهو الباء ، وهذا مذهب التلميذين : والكسائي سيبويه . الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر أي : يذكر أني ، فيذكر صفة لرسولا ، حذفت الصفة وبقي معمولها . الثالث : أنه منصوب على البدل من "رسولا " أي : إذا جعلته مصدرا مفعولا به ، تقديره : ويعلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم ، جوزه والفراء وهو بعيد في المعنى . أبو البقاء
الثالث : من الأوجه الأول : أن موضعه رفع على خبر متبدأ محذوف أي : هو أني قد جئتكم .
وقرأ بعض القراء بكسر هذه الهمزة وفيها تأويلان ، أحدهما : أنها على إضمار القول أي : قائلا إني قد جئتكم ، فحذف القول الذي هو حال في المعنى وأبقى معموله . والثاني : أن "رسولا " بمعنى ناطق ، فهو مضمن معنى [ ص: 191 ] القول ، وما كان مضمنا معنى [القول ] أعطي حكم القول ، وهذا مذهب الكوفيين .
قوله : بآية يحتمل أن تكون متعلقة بمحذوف على أنها حال من فاعل "جئتكم " أي : جئتكم ملتبسا بآية . والثاني : أنها متعلقة بنفس المجيء أي : إجاءتكم الآية . وقوله : من ربكم صفة لآية فيتعلق بمحذوف أي : بآية من عند ربكم ، فـ "من " للابتداء مجازا ، ويجوز أن يتعلق " من ربكم " بنفس المجيء أيضا . وقدر الحال في قوله أبو البقاء بآية بقوله : محتجا بآية ، إن عنى من جهة المعنى صح ، وإن عنى من جهة الصناعة لم يصح ، إذ لم يضمر في هذه الأماكن إلا الأكوان المطلقة .
وقرأ الجمهور : "بآية " بالإفراد في الموضعين ، : "بآيات " جمعا في الموضعين . وابن مسعود
قوله : أني أخلق قرأ بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها . فالكسر من ثلاثة أوجه ، الأول : على إضمار القول أي : فقلت : إني أخلق . الثاني : أنه على الاستئناف . الثالث : على التفسير ، فسر بهذه الجملة قوله : "بآية " كأن قائلا قال : وما الآية ؟ فقال هذا الكلام ، ونظيره ما سيأتي : " نافع إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم " ثم قال : خلقه من تراب فخلقه مفسرة للمثل ، ونظيره أيضا قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم فسر الوعد بقوله : لهم مغفرة ، وهذا الوجه هو الوجه الصائر إلى الاستئناف ، فإن [ ص: 192 ] المستأنف يؤتى به تفسيرا لما قبله ، إلا أن الفرق بينه وبين ما قبله أن الوجه الذي قبله لا تجعل له تعلقا بما تقدم البتة ، بل جيء به لمجرد الإخبار بما تضمنه ، والوجه الثالث تقول : إنه متعلق بما تقدمه ، مفسر له .
وأما قراءة الجماعة ففيها أربعة أوجه أحدها : أنها بدل من " أني قد جئتكم " فيجيء فيها ما تقدم في تلك لأن حكمها حكمها . الثاني : أنها بدل من "آية " فتكون محلها ، أي : وجئتكم بأني أخلق لكم ، وهذا نفسه آية من الآيات ، وهذا البدل يحتمل أن يكون كلا من كل إن أريد بالآية شيء خاص ، وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس . الثالث : أنها خبر مبتدأ مضمر تقديره : هي أني أخلق أي : الآية التي جئت بها أني أخلق ، وهذه الجملة في الحقيقة جواب لسؤال مقدر كأن قائلا قال : وما الآية ؟ فقال : ذلك . الرابع : أن تكون منصوبة بإضمار فعل ، وهو أيضا جواب لذلك السؤال كأنه قال : أعني أني أخلق ، وهذان الوجهان يلاقيان في المعنى قراءة على بعض الوجوه فإنهما استئناف . نافع
و "لكم " متعلق بأخلق ، واللام للعلة ، أي : لأجلكم بمعنى : لتحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي ، وإلا فالذوات لا تكون عللا بل أحداثها . و " من الطين " متعلق به أيضا ، و "من " لابتداء الغاية ، وقول من قال : إنها للبيان "تساهل ، إذ لم يسبق منهم تبينه .
قوله : كهيئة الطير في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها نعت لمفعول محذوف تقديره : أني أخلق لكم هيئة مثل هيئة الطير ، والهيئة : إما مصدر في الأصل ثم أطلقت على المفعول أي المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق ، وإما اسم لحال الشيء ، وليست مصدرا ، والمصدر : التهيؤ والتهييء والتهيئة ، ويقال : [هاء الشيء يهيء هيئا وهيئة إذا ترتب واستقر على [ ص: 193 ] حالة مخصوصة ] ، ويتعدى بالتضعيف ، قال تعالى : ويهيئ لكم من أمركم مرفقا . والطين : معروف ، طانه الله على كذا وطامه بإبدال النون ميما أي : جبله عليه ، والنفخ معروف .
الثاني : أن الكاف هي المفعول به لأنها اسم كسائر الأسماء وهذا رأي ، يجعل الكاف اسما حيث وقعت ، وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه كوقوعها مجرورة بحرف أو بإضافة أو تقع فاعلة أو مبتدأ ، وقد تقدم جميع أمثلة ذلك مسبوقا فأغنى عن إعادته هنا . الأخفش
والثالث : أنها نعت لمصدر محذوف ، قاله نقلا عن الواحدي بعد كلام طويل ، قال " وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد ، تقديره : أني أخلق لكم من الطين خلقا مثل هيئة الطير " . وفيما قاله نظر من حيث المعنى ؛ لأن التحدي إنما يقع في أثر الخلق ، وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات لا في نفس الخلق ، اللهم إلا أن تقول : المراد بهذا المصدر المفعول به فيؤول إلى ما تقدم . أبي علي
وقال : " إني أقدر لكم شيئا مثل هيئة الطير "فهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف ، وقوله " أقدر "تفسير للخلق ، لأن الخلق هنا التقدير ، كقول الشاعر : الزمخشري
1296 - ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
[ ص: 194 ] إذ ليس المراد الاختراع فإنه مختص بالباري تعالى . وقرأ : " كهية "بنقل حركة الهمزة إلى الياء وهي فصيحة . وقرأ الزهري : كهيئة الطائر . أبو جعفر
قوله : فأنفخ فيه في هذا الضمير ستة أوجه ، أحدها : أنه عائد على الكاف ، لأنها اسم عند من يرى ذلك أي : أنفخ في مثل هيئة الطير . الثاني : أنه عائد على " هيئة "لأنها في معنى الشيء المهيأ ، فلذلك عاد الضمير عليها مذكرا ، وإن كانت مؤنثة ، اعتبارا بمعناها دون لفظها ، ونظيره قوله تعالى : وإذا حضر القسمة ثم قال : فارزقوهم منه فأعاد الضمير في : " منه "على القسمة لما كانت بمعنى المقسوم . الثالث : أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير . الرابع : أنه عائد على ما وقعت الدلالة عليه في اللفظ وهو " أني أخلق " ويكون الخلق بمنزلة المخلوق . الخامس : أنه عائد على ما دلت عليه الكاف من معنى المثل ، لأن المعنى : أخلق من الطين مثل هيئة الطير ، وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره : أني أخلق لكم خلقا مثل هيئة الطير ، قاله وقد تقدم الكلام معه في ذلك . السادس : أنه عائد على الطين قاله الفارسي . وهذا الوجه قد أفسده أبو البقاء فإنه قال : "ولا يجوز أن تعود الكناية على الطين لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص ، وهو ما كان مهيأ منه ، والطين المتقدم ذكره عام فلا تعود إليه الكناية ، ألا ترى أنه لا ينفخ جميع الطين ، وفي هذا الرد نظر ، إذ لقائل أن يقول : لا نسلم عموم الطين المتقدم ، بل المراد بعضه ، ولذلك أدخل عليه " من "التي تقتضي التبعيض ، وإذا صار المعنى : " أني أخلق بعض الطين "عاد الضمير عليه من [ ص: 195 ] غير إشكال ، ولكن الواحدي جعل " من "في " من الطين "لابتداء الغاية وهو الظاهر . قال الشيخ : " وقد قرأ بعض القراء : "فأنفخها " أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة ، إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو على الكاف على المعنى ، إذ هي بمعنى : مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة في قوله : الواحدي فتنفخ فيها فتكون هذه القراءة قد حذف حرف الجر منها كقوله :
1297 - ما شق جيب ولا قامتك نائحة ولا بكتك جياد عند إسلاب
وقول : النابغة
1298 - ... ... ... ... كالهبرقي تنحى ينفخ الفحما
يريد : ولا قامت عليك ، وينفخ في الفحم ، قال : "وهي قراءة شاذة نقلها " ، وعجبت منه كيف لم يعزها ، وقد عزاها صاحب "الكشاف " إلى الفراء قال : وقرأ عبد الله : "فأنفخها " وأنشد : عبد الله
"كالهبرقي تنحى " .
قوله : "فيكون " في "يكون " وجهان أحدهما : أنها تامة أي : فيوجد [ ص: 196 ] ويكون "طيرا " على هذا حالا ، والثاني : أنها الناقصة و "طيرا " خبرها ، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون ، لأن في وقوع اسم الجنس حالا بعدا محوجا إلى تأويل ، وإنما يظهر ذلك على قراءة : "طائرا " لأنه حينئذ اسم مشتق ، وإذا قيل بنقصانها فيجوز أن تكون على بابها ويجوز أن تكون بمعنى صار الناقصة كقوله : نافع
1299 - بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
أي : صارت ، وقال : "فيكون " أي : يصير ، فيجوز أن تكون "كان " هنا التامة لأن معناها "صار " ، وصار بمعنى انتقل ، ويجوز أن تكون الناقصة ، و "طائرا " على الأول حال وعلى الثاني خبر " . قلت : لا حاجة إلى جعله إياها في حال تمامها بمعنى "صار " التامة التي معناها معنى انتقل ، بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث ووجد وحصل وشبهها ، وإذا جعلوها بمعنى "صار " فإنما يعنون صار الناقصة . أبو البقاء
وقرأ نافع : "فيكون طائرا " هنا وفي المائدة ، والباقون : "طيرا " في الموضعين . فأما قراءة ويعقوب فوجهها بعضهم بأن المعنى على التوحيد ، والتقدير : فيكون ما أنفخ فيه طائرا ، ولا يعترض عليه بأن الرسم الكريم إنما هو "طير " دون ألف ، لأن الرسم يجوز حذف مثل هذه الألف تخفيفا ، ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى : نافع ولا طائر يطير بجناحيه : " [ ص: 197 ] ولا طير " دون ألف ، ولم يقرأه أحد إلا "طائر " بالألف ، فالرسم محتمل لا مناف .
وقال بعضهم كالشارح لما قدمته : "ذهب إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يخلق غير الخفاش " . وزعم آخرون أن معنى قراءته : يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائرا ، قال : كقوله تعالى : نافع فاجلدوهم ثمانين جلدة أي : اجلدوا كل واحد منهم ، وهو كثير في كلامهم .
وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يراد به اسم الجنس ، أي : جنس الطير ، فيحتمل أن يراد به الواحد فما فوقه ، ويحتمل أن يراد به الجمع ، ولا سيما عند من يرى أن "طيرا " صيغته جمع نحو : ركب وصحب وتجر جمع راكب وصاحب وتاجر وهو ، وأما الأخفش فهي عنده أسماء جموع لا جموع صريحة ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك في البقرة . وحسن قراءة الجماعة موافقته لما قبله في قوله : " من الطير " ولموافقة الرسم لفظا ومعنى . سيبويه
قوله : بإذن الله يجوز أن يتعلق بـ "طائرا " وهذا على قراءة ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به ، لأن طيرا اسم جنس فيتعلق بمحذوف على أنه صفة لطير ، أي : طيرا ملتبسا بإذن الله أي : بتمكينه وإقراره . وقال نافع : "متعلق بيكون " ، وهذا إنما يظهر إذا جعل "كان " تامة ، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلق الظرف بها الخلاف المشهور . أبو البقاء
قوله : وأبرئ الأكمه وأبرئ عطف على "أخلق " فهو داخل في حيز "أني " ، ويقال : أبرأت زيدا من العاهة ومن الدين ، وبراتك من الدين [ ص: 198 ] بالتضعيف ، وبرئت من المرض أبرأ ، وبرأت أيضا ، وأما برئت من الدين ومن الذنب فبرئت لا غير . وقال : "برئت من المرض لغة تميم وبرأت لغة الحجاز " . وقال الأصمعي : "برأت من المرض وبرئت ، وبرأت من فلان " فظاهر هذا أنه لا يقال الوجهان : أعني فتح الراء وكسرها إلا في البراءة من المرض ونحوه ، وأما الدين والذنب ونحوهما فالفتح ليس إلا . والبراءة : التغصي من الشيء المكروه مجاوزته وكذلك : التبري والبرء . الراغب
والأكمه : من ولد أعمى يقال : كمه يكمه كمها فهو أكمه قال رؤبة :
1300 - فارتد عنها كارتداد الأكمه
ويقال كمهتها أنا أي : أعميتها . وقال الزمخشري وغيرهما : "الأكمه من ولد مطموس العين " . قال والراغب : "ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير الزمخشري صاحب التفسير " . وقال قتادة : "وقد يقال لمن ذهبت عينه : أكمه ، قال الراغب سويد :
1301 - كمهت عيناه حتى ابيضتا ... ... ... ...
[ ص: 199 ] والبرص داء معروف وهو بياض يعتري الإنسان ، ولم تكن العرب تنفر من شيء نفرتها منه ، يقال : برص يبرص برصا ، أي : أصابه ذلك ، ويقال له : الوضح ، وفي الحديث : " وكان بها وضح "والوضاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له الأبرص ، ويقال للقمر : أبرص لشدة بياضه . وقال : " للنكتة التي عليه "وليس بظاهر ، فإن النكتة التي عليه سوداء ، والوزغ : سام أبرص لبياضه ، والتبريص : الذي يلمع لمعان البرص ويقارب البصيص . الراغب
قوله : بما تأكلون يجوز في " ما "أن تكون موصولة اسمية أو حرفية أو نكرة موصوفة ، فعلى الأول والثالث يحتاج إلى عائد بخلاف الثاني عند الجمهور ، وكذلك " ما "في قوله : " وما تدخرون "محتملة لما ذكر .
وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع دلالة على تجدد ذلك كل وقت طلب منه ، وقيد قوله : " أني أخلق "إلى آخره " بإذن الله "لأنه خارق عظيم ، فأتى به دفعا لتوهم الإلهية ، ولم يأت به فيما عطف عليه في قوله : " وأبرئ " ، ثم قيد الخارق الثالث أيضا " بإذن الله "لأنه خارق عظيم أيضا ، وعطف عليه قوله : " وأنبئكم "من غير تقييد له منبهة على عظم ما قبله ودفعا لوهم من يتوهم فيه الإلهية ، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين اكتفاء به في الأول ، وما قدمته أحسن .
وتدخرون : قراءة العامة بدال مشددة مهملة ، وأصله تذتخرون تفتعلون من الذخر وهو التخبئة ، يقال : ذخر الشيء يذخره ذخرا فهو ذاخر ومذخور أي : خباه ، قال الشاعر :
[ ص: 200 ]
1302 - لها أشارير من لحم تتمره من الثعالي وذخر من أرانيها
الذخر : فعل بمعنى المذخور نحو : الأكل بمعنى المأكول ، وبعض النحويين يصحف هذا البيت فيقول : " ووخز "بالواو والزاي ، وقوله : " من الثعالي وأرانيها "يريد : من الثعالب وأرانبها ، فأبدل الباء الموحدة ياء بثنتين من تحت ، ولما كان أصله " تذتخرون "اجتمعت الذال المعجمة مع التاء - أي تاء الافتعال - أبدلت تاء الافتعال دالا مهملة فالتقى بذلك متقاربان : الذال والدال ، فأدغم الذال المعجمة في المهملة فصار اللفظ : تدخرون كما ترى .
وقد قرأ في رواية عن السوسي : تذدخرون بقلب تاء الافتعال دالا مهملة من غير إدغام ، وهو وإن كان جائزا إلا أن الإدغام هو الفصيح . وقرأ أبي عمرو الزهري ومجاهد وأبو السمال "تذخرون " بسكون الذال المعجمة وفتح الخاء ، جاءوا به مجردا على فعل ، يقال : ذخرته أي : خبأته ، ومن العرب من يقلب تاء الافتعال في هذا النحو ذالا معجمة فيقول : اذخر ، يذخر بذال معجمة مشددة ، ومثله اذكر فهو مذكر ، وسيأتي إن شاء الله . وأيوب السختياني
وقال : "والأصل في تدخرون : تذتخرون ، إلا أن الذال مهجورة والتاء مهموسة فلم يجتمعا ، فأبدلت التاء دالا لأنها من مخرجها لتقرب من الذال ، ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت " . و " أبو البقاء في بيوتكم " متعلق بتدخرون .
[ ص: 201 ] قوله : إن في ذلك "ذلك " إشارة إلى جميع ما تقدم من الخوارق ، وأشير إليها بلفظ الإفراد وإن كانت جمعا في المعنى ، بتأويل "ما ذكر ما تقدم " . وقد تقدم أن في مصحف وقراءته : "لآيات " بالجمع مراعاة لما ذكرته من معنى الجمع . وهذه الجملة تحتمل أن تكون من كلام عبد الله عيسى وأن تكون من كلام الله تعالى .
و إن كنتم مؤمنين جوابه محذوف أي : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية وتدبرتموها . وقدر بعضهم صفة محذوفة لآية ، أي لآية نافعة ، قال الشيخ : "حتى يتجه التعلق بهذا الشرط " وفيه نظر ، إذ يصح التعلق بالشرط دون تقدير هذه الصفة .