قوله : من التوراة فيه وجهان ، أحدهما : أنه حال من "ما " الموصولة أي : الذين بين يدي حال كونه من التوراة ، فالعامل فيه "مصدقا " لأنه عامل في صاحب الحال ، والثاني : أنه حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع صلة ، والعامل فيه الاستقرار المضمر في الظرف أو نفس الظرف لقيامه مقام الفعل .
قوله : ولأحل فيه أوجه أحدها : أنه معطوف على معنى "مصدقا " إذ المعنى : جئتكم لأصدق ما بين يدي ولأحل لكم ، ومثله من الكلام : "جئته معتذرا إليه ولأجتلب رضاه ، أي : جئت لأعتذر ولأجتلب ، كذا قال وفيه نظر ، لأن المعطوف عليه حال ، وهذا تعليل . قال الشيخ بعد أن ذكر هذا الوجه : " وهذا هو العطف على التوهم وليس هذا منه ، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل ، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحدا في المعطوف والمعطوف عليه ، ألا ترى إلى قوله : الواحدي فأصدق وأكن كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التخضيض ، وكذلك قوله :
1303 - تقي نقي لم يكثر غنيمة بنهكة ذي قربى ولا بحقلد
[ ص: 203 ] كيف اتحد معنى النفي في قوله : "لم يكثر " وفي قوله : "ولا بحقلد " أي : ليس بمكثر ولا بحقلد ، وكذلك ما جاء منه " . قلت : ويمكن أن يريد هذا القائل أنه معطوف على معنى "مصدقا " أي : بسبب دلالته على علة محذوفة هي موافقة له في اللفظ فنسب العطف على معناه باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه ، أعني مدلول المادة وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العلة .
الثاني : أنه معطوف على علة مقدرة أي : جئتكم بآية لأوسع عليكم ولأحل ، أو لأخفف عنكم ولأحل ونحو ذلك .
الثالث : أنه معمول لفعل مضمر لدلالة ما تقدم عليه أي : وجئتكم لأحل ، فحذف العامل بعد الواو .
الرابع : أنه متعلق بقوله : وأطيعون والمعنى : اتبعوني لأحل لكم ، وهذا بعيد جدا أو ممتنع .
الخامس : أن يكون "ولأحل " ردا على قوله : "بآية " ، قال : "ولأحل " رد على قوله : الزمخشري بآية من ربكم أي "جئتكم بآية من ربكم ولأحل " . قال الشيخ : "ولا يستقيم أن يكون " ولأحل لكم "ردا على " بآية " ؛ لأن " بآية "في موضع حال ، و " لأحل "تعليل ولا يصح عطف التعليل على الحال ؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه ، فإن عطفت على مصدر أو مفعول به أو ظرف أو حال أو تعليل أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف " قلت : ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد ردا على "بآية " من حيث دلالتها على عامل مقدر .
[ ص: 204 ] قوله : بعض الذي حرم المراد ببعض مدلوله الأصلي ، وقال "إنها هنا بمعنى " كل "مستدلا بقول لبيد : أبو عبيدة
1304 - تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وقد رد الناس عليه بأنه كان يلزم أن يحل لهم الربا والسرقة والقتل لأنها كانت محرمة عليهم ، فلو كان المعنى : ولأحل لكم كل الذي حرم عليكم لأحل لهم ذلك كله . واستدل بعضهم على أن " بعضا "بمعنى " كل "بقول الآخر :
1305 - أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
أي : أهون من كل الشر ، واستدل آخرون بقول الآخر :
1306 - إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
أي : في كلها خللا ، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه ، إذ مراد لبيد ببعض النفوس نفسه هو ، والتبعيض في البيتين الآخرين واضح فإن الشر بعضه أهون من بعض آخر لا من كله ، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان فيه خلل ، بل قد يأتي تدبيره أحسن من تدبير الشيخ .
[ ص: 205 ] وقرأ العامة : " حرم "مبنيا للمفعول والفاعل هو الله تعالى . وقرأ : " حرم "مبنيا للفاعل وهو الله تعالى أو الموصول في قوله : عكرمة لما بين يدي لأنه كتاب منزل ، أو موسى لأنه هو صاحب التوراة ، فأضمر للدلالة عليه بذكر كتابه . وقرأ : "حرم " بوزن شرف وظرف ، نسب الفعل إليه مجازا للعلم أن المحرم هو الله تعالى . إبراهيم النخعي
قوله : وجئتكم هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيدا للأولى لتقدم معناها ولفظها قبل ذلك . قال : "هذا تكرير للتوكيد لأنه سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها " ويحتمل أن تكون للتأسيس لاختلاف متعلقها ومتعلق ما قبلها . قال الشيخ : " أبو البقاء وجئتكم بآية من ربكم للتأسيس لا للتوكيد لقوله : " قد جئتكم " ، وتكون هذه الآية قوله : إن الله ربي وربكم فاعبدوه لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته ؛ إذ جميع الرسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجعل هذا القول آية وعلامة لأنه رسول كسائر الرسل حيث هداه للنظر في أدلة العقل والاستدلال ، قاله . الزمخشري