و ميثاق يجوز أن يكون مضافا لفاعله أو لمفعوله . وفي مصحف أبي وقراءاتهما : "ميثاق الذين أوتوا الكتاب " مثل ما في آخر السورة ، وعن وعبد الله كذلك ، وقال : "أخطأ الكاتب " وهذا خطأ من قائله كائنا من كان ، ولا أظنه يصح عن مجاهد بن جبر ، فإنه قرأ عليه مثل مجاهد ابن كثير ، ولم ينقل واحد منهما عنه شيئا من ذلك . وأبي عمرو ابن العلاء
والمعنى على القراءة الشهيرة صحيح ، وقد ذكر الناس فيها أوجها ، أحدها : أن الكلام على ظاهره وأن الله تعالى أخذ على الأنبياء مواثيق أنهم يصدقون بعضهم بعضا وينصر بعضهم بعضا ، بمعنى أنه يوصي قومه أن ينصروا ذلك النبي الذي بعده ولا يخذلوه ، وهذا مروي عن جماعة . الثاني : أن الميثاق مضاف لفاعله والموثق عليه غير مذكور لفهم المعنى ، والتقدير : ميثاق النبيين على أممهم ، ويؤيده قراءة أبي ، ويؤيده أيضا قوله : وعبد الله فمن تولى بعد ذلك . الثالث : أنه على حذف مضاف تقديره : ميثاق أمم الأنبياء أو أتباع ، ويؤيده ما أيد ما قبله أيضا وقوله : ثم جاءكم رسول .
[ ص: 284 ] الرابع : قال : "أن يراد أهل الكتاب ، وأن يرد على زعمهم تهكما بهم لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من الزمخشري محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنا أهل كتاب ومنا كان النبيون " وهذا الذي قاله بعيد جدا ، كيف يسميهم أنبياء تهكما بهم ، ولم يكن ثم قرينة تبين ذلك ؟
قوله : لما آتيتكم العامة : "لما " بفتح اللام وتخفيف الميم ، وحده على كسر اللام ، وحمزة وسعيد بن جبير : لما بالفتح والتشديد . فأما قراءة العامة ففيها خمسة أوجه : أحدها : أن تكون "ما " موصولة بمعنى الذي وهي مفعولة بفعل محذوف ، وذلك الفعل هو جواب القسم ، والتقدير : والله لتبلغن ما آتيناكم من كتاب ، قال هذا القائل : لأن لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دلت هذه اللام على الفعل حذف ، ثم قال تعالى : والحسن "ثم جاءكم رسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم " قال : "وعلى هذا التقدير يستقيم النظم " . قلت : "وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوز البتة ، إذ يمتنع أن تقول في نظيره من الكلام : " والله لزيدا "تريد : والله لتضربن زيدا .
الوجه الثاني : - وهو قول وغيره - أن تكون اللام في "لما " جواب قوله : أبي علي ميثاق النبيين لأنه جار مجرى القسم ، فهي لام الابتداء المتلقى بها القسم ، و "ما " مبتدأة موصولة و "آتيناكم " صلتها ، والعائد محذوف تقديره : آتيناكموه ، فحذف لاستكمال شروطه ، و " من كتاب " حال : إما من الموصول وإما من عائده ، وقوله : ثم جاءكم رسول عطف على الصلة ، وحينئذ فلا بد من رابط يربط هذه الجملة بما قبلها فإن المعطوف على الصلة صلة ، واختلفوا في ذلك : فذهب بعضهم إلى أنه محذوف تقديره : "ثم [ ص: 285 ] جاءكم رسول به " فحذف "به " لطول الكلام ولدلالة المعنى عليه ، وهذا لا يجوز ؛ لأنه متى جر العائد لم يحذف إلا بشروط تقدمت ، هي مفقودة هنا ، وزعم هؤلاء أن هذا مذهب ، وفيه ما قد عرفته ، ومنهم من قال : الربط حصل هنا بالظاهر ، لأن هذا الظاهر وهو قوله : " سيبويه لما معكم " صادق على قوله : "لما آتيناكم " فهو نظير : "أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ، والحجاج الذي رأيت ابن يوسف " ، وقال :
1348 - فيا رب ليلى أنت في كل موطن وأنت الذي في رحمة الله أطمع
يريدون : عنه ورأيته وفي رحمته ، وقد وقع ذلك في المبتدأ والخبر نحو قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا وهذا رأي أبي الحسن وتقدم فيه بحث . ومنهم من قال : إن العائد يكون ضمير الاستقرار العامل في "مع " ، و " لتؤمنن به " جواب قسم مقدر ، وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو " لما آتيتكم " ، والهاء في به تعود على المبتدأ ولا تعود على "رسول " ، لئلا يلزم خلو الجملة الواقعة خبرا من رابط يربطها بالمبتدأ .
الثالث : كما تقدم إلا أن اللام في "لما " لام التوطئة ، لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف ، وفي " لتؤمنن به " لام جواب القسم ، هذا كلام ثم قال : "وما " تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط ، و "لتؤمنن " ساد مسد جواب القسم والشرط جميعا ، وأن تكون بمعنى "الذي " . وهذا الذي قاله فيه نظر من حيث إن لام التوطئة إنما تكون مع أدوات الشرط ، [ ص: 286 ] وتأتي غالبا مع "إن " ، أما مع الموصول فلا ، فلو جوز في اللام أن تكون موطئة وأن تكون للابتداء ، ثم ذكر في "ما " الوجهين لحملنا كل واحد على ما يليق به . الزمخشري
الرابع : أن اللام هي الموطئة و "ما " بعدها شرطية ، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها وهو "آتيناكم " ، وهذا الفعل مستقبل معنى لكونه في حيز الشرط ، ومحله الجزم والتقدير : والله لأي شيء آتيتكم من كذا وكذا لتكونن كذا .
وقوله : من كتاب كقوله : ما ننسخ من آية وقد تقدم تقريره . وقوله : ثم جاءكم رسول عطف على الفعل قبله فيلزم أن يكون فيه رابط يربطه بما عطف عليه . و " لتؤمنن " جواب لقوله : أخذ الله ميثاق النبيين ، وجواب الشرط محذوف سد جواب القسم مسده ، والضمير في "به " عائد على "رسول " ، كذا قال الشيخ ، وفيه نظر لأنه يمكن عوده على اسم الشرط ، ويستغني حينئذ عن تقديره رابطا ، وهذا كما تقدم في الوجه الثاني ، ونظيره هذا من الكلام أن تقول : "أحلف بالله لأيهم رأيت ثم ذهب إليه رجل قرشي لأحسنن إليه " تريد إلى الرجل ، وهذا الوجه هو مذهب . الكسائي
وقال سأل سيبويه عن هذه الآية فأجاب بأن "ما " بمنزلة الذي ، ودخلت اللام على "ما " كما دخلت على "إن " حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، فاللام التي في "ما " كهذه التي في إن ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا "هذا نص الخليل . قال الخليل : " لم يرد أبو علي بقوله [ ص: 287 ] " إنها بمنزلة الذي " كونها موصولة بل إنها اسم كما أن الذي اسم ، وقرر أن تكون حرفا كما جاءت حرفا في قوله : الخليل وإن كلا لما ليوفينهم وإن كل ذلك لما متاع الحياة وقال : "ومثل ذلك : سيبويه لمن تبعك منهم لأملأن جهنم إنما دخلت اللام على نية اليمين " .
وإلى كونها شرطية ذهب جماعة كالمازني والزجاج والزمخشري ، قال الشيخ : "وفيه حدس لطيف ، وحاصل ما ذكر أنهم إن أرادوا تفسير المعنى فيمكن أن يقال ، وإن أرادوا تفسير الإعراب فلا يصح ؛ لأن كلا منهما - أعني الشرط والقسم - يطلب جوابا على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولا عليهما ؛ لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيكون في موضع جزم ، والقسم يطلبه من جهة التعلق المعنوي به من غير عمل فلا موضع له من الإعراب ، ومحال أن يكون الشيء له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب " قلت : تقدم هذا الإشكال والجواب عنه . والفارسي
الخامس : أن أصلها "لما " بتشديد الميم فخففت ، وهذا قول ابن أبي إسحاق ، وسيأتي توجيه قراءة التشديد فتعرف من ثمة .
وقرأ : "لما " بكسر اللام خفيفة الميم أيضا ، وفيها أربعة أوجه ، أحدهما : - وهو أغربها - أن تكون اللام بمعنى "بعد " كقول حمزة : النابغة
[ ص: 288 ]
1349 - توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
يريد : فعرفتها بعد ستة أعوام ، وهذا منقول عن صاحب النظم ، ولا أدري ما حمله على ذلك ؟ وكيف ينتظم هذا كلاما ، إذ يصير تقديره : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بعدما آتيناكم ، ومن المخاطب بذلك ؟
الثاني : أن اللام للتعليل ، وهذا الذي ينبغي ألا يحاد عنه وهي متعلقة بـ "لتؤمنن " ، و "ما " حينئذ مصدرية ، قال : "ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدق لتؤمنن به ، على أن " ما "مصدرية ، والفعلان معها أعني : " آتيناكم "و " جاءكم "في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل ، والمعنى : أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي أمركم بالإيمان ونصرته موافق لكم غير مخالف . قال الشيخ : " ظاهر هذه التعليل الذي ذكره والتقدير الذي قدره أنه تعليل للفعل المقسم عليه ، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية ، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلا لأخذ الميثاق لا لمتعلقه وهو الإيمان ، فاللام متعلقة بأخذ ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله : الزمخشري لتؤمنن به " ، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، تقول : والله لأضربن زيدا ، ولا يجوز : والله زيدا لأضربن ، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في " لما "بقوله : " لتؤمنن " . وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب - إذا كان ظرفا أو مجرورا - تقدمه ، وجعل من ذلك :
1350 - [ ص: 289 ] ... ... ... ... عوض لا نتفرق
وقوله تعالى : عما قليل ليصبحن نادمين فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله : " لتؤمنن "وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو ، قلت : أما تعلق اللام بلتؤمنن من حيث المعنى فإنه أظهر من تعلقها بأخذ ، وهو واضح فلم يبق إلا ما ذكر من منع تقديم معمول الجواب المقترن باللام عليه وقد عرف ، وقد يكون ممن يرى جوازه . الزمخشري
والثالث : أن تتعلق اللام بأخذ أي : لأجل إيتائي إياكم كيت وكيت أخذت عليكم الميثاق ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره : لرعاية ما أتيتكم .
الرابع : أن تتعلق بالميثاق لأنه مصدر ، أي توثقنا عليهم لذلك . هذه الأوجه بالنسبة إلى اللام ، وأما [ما ] ففيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن تكون مصدرية وقد تقدم تحريره عند . والثاني : أنها موصولة بمعنى الذي وعائدها محذوف و " ثم جاءكم "عطف على الصلة ، والرابط لها بالموصول : إما محذوف تقديره : " به "وهو رأي الزمخشري ، وإما لقيام الظاهر مقام المضمر وهو رأي سيبويه ، وإما ضمير الاستقرار الذي تضمنه " معكم "وقد تقدم تحقيق ذلك . والثالث : أنها نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها وعائدها محذوف ، و " الأخفش ثم جاءكم "عطف على الصفة ، والكلام في الرابط كما تقدم فيها وهي صلة ، إلا أن إقامة الظاهر مقام الضمير في الصفة ممتنع ، لو قلت : " مررت برجل قام أبو عبد الله "على أن يكون " قام أبو عبد الله "صفة [ ص: 290 ] لرجل ، والرابط أبو عبد الله ، إذ هو الرجل في المعنى لم يجز ذلك ، وإن جاز في الصلة والخبر عند من يرى ذلك ، فيتعين عود ضمير محذوف .
وجواب قوله : وإذ أخذ الله ميثاق قوله : لتؤمنن به كما تقدم ، والضمير فيه "به " عائد على "رسول " ، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور لو قلت "أقسمت للخير الذي بلغني عن عمرو لأحسنن إليه " جاز .
وقوله : من كتاب وحكمة : إما حال من الموصول أو من عائده ، وإما بيان له فامتنع في قراءة أن تكون "ما " شرطية كما امتنع في قراءة الجمهور أن تكون مصدرية . حمزة
وأما قراءة سعيد ففيها أوجه ، أحدها : أن "لما " هنا ظرفية بمعنى حين فتكون ظرفية . ثم القائل بظرفيتها اختلف تقديره في جوابها ، فذهب والحسن إلى أن الجواب مقدر من جنس جواب القسم فقال : "لما " بالتشديد بمعنى حين ، أي : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق وجب عليكم الإيمان به ونصرته " . وقال الزمخشري : " ويظهر أن "لما " هذه الظرفية أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة ابن عطية "فقدر حمزة جوابها من جنس ما سبقها ، وهذا الذي ذهبا إليه مذهب مرجوح قال به ابن عطية ، والجمهور : الفارسي وأتباعه على خلافه ، وقد تقدم تحقيق هذا الخلاف فلا حاجة لذكره . وقال [ ص: 291 ] سيبويه : " أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ عليكم الميثاق ، وتكون "لما " تؤول إلى الجزاء كما تقول : لما جئتني أكرمتك "وهذه العبارة لا يؤخذ منها كون " لما "ظرفية ولا غير ذلك ، إلا أن فيها عاضدا لتقدير الزجاج جوابها من جنس ما تقدمها بخلاف تقدير ابن عطية . الزمخشري
الثاني : أن " لما "حرف وجوب لوجوب ، وقد تقدم دليله وأنه مذهب ، وجوابها كما تقدم من تقديري سيبويه ابن عطية . وفي قول والزمخشري : " فيجيء على المعنى كالمعنى في قراءة ابن عطية "نظر ؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل وهذه القراءة لا تعليل فيها ، اللهم إلا أن يقال : لما كانت " لما "تحتاج إلى جواب أشبه ذلك العلة ومعلولها ، لأنك إذا قلت : " لما جئتني أكرمتك "في قوة : أكرمتك لأجل مجيئي إليك ، فهي من هذه الجهة كقراءة حمزة . حمزة
والثالث : أن الأصل : لمن ما فأدغمت النون في الميم لأنها تقاربها ، والإدغام هنا واجب ، ولما اجتمع ثلاث ميمات ، ميم من ، وميم " ما "والميم التي انقلبت من نون " من "لأجل الإدغام فحصل ثقل في اللفظ . قال : "فحذفوا إحداها " . قال الشيخ : "وفيه إبهام " ، وقد عينها الزمخشري بأن المحذوفة هي الأولى ، قلت : وفيه نظر ، لأن الثقل إنما حصل بما بعد الأولى ، ولذلك كان الصحيح في نظائره إنما هو حذف الثواني نحو : "تنزل " و "تذكرون " ، وقد ذكر ابن عطية أن المحذوفة هي الثانية ، قال : "لضعفها بكونها بدلا وحصول التكرير بها " . أبو البقاء
[ ص: 292 ] و "من " هذه التي في "لمن ما " زائدة في الواجب على رأي . وهذا تخريج أبي الحسن الأخفش أبي الفتح ، وفيه نظر بالنسبة إلى ادعائه زيادة "من " فإن التركيب يقلق على ذلك ، ويبقى المعنى غير ظاهر .
الرابع : أن الأصل أيضا : لمن ما ، ففعل به ما تقدم من القلب والإدغام ثم الحذف ، إلا أن "من " ليست زائدة بل هي تعليلية ، قال : "ومعناه لمن أجل ما أتيتكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة الزمخشري في المعنى " قلت : وهذا الوجه أوجه مما تقدمه لسلامته من ادعاء زيادة "من " ولوضوح معناه . قال الشيخ : "وهذا التوجيه في غاية البعد وينزه كلام العرب أن يأتي فيه مثله فكيف في كتاب الله عز وجل! وكان حمزة كثير التمحل في كلام ابن جني العرب ، ويلزم في " لما "هذه على ما قرره أن تكون اللام في " لمن ما آتيناكم "زائدة ، ولا تكون اللام الموطئة ، لأن الموطئة إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر ، لو قلت : " أقسم بالله لمن أجلك لأضربن زيدا "لم يجز ، وإنما سميت موطئة لأنها توطئ ما يصلح أن يكون جوابا للشرط للقسم ، فيصير جواب الشرط إذ ذاك محذوفا لدلالة جواب القسم عليه " قلت : قد تقدم له هو أن "ما " في هذه القراءة يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي ، وأن اللام معها موطئة للقسم ، وقد حصر هنا أنها لا تدخل إلا على أدوات الشرط فأحد الأمرين لازم له ، وقد قدمت أن هذا هو الإشكال على من جعل "ما " موصولة وجعل اللام موطئة . الزمخشري
وقرأ : "آتيناكم " بضمير المعظم نفسه ، والباقون : "آتيتكم " [ ص: 293 ] بضمير المتكلم وحده ، وهو موافق لما قبله وما بعده من صيغة الإفراد في قوله : نافع وإذ أخذ الله ، وجاء بعده "إصري " .
وفي قوله "آتيتكم " أو "آتيناكم " على كلا القراءتين التفاتان أحدهما : الخروج من الغيبة إلى التكلم في قوله آتينا أو آتيت ، لأن قبله ذكر الجلالة المعظمة في قوله : وإذ أخذ الله ، والثاني : الخروج من الغيبة إلى الخطاب في قوله : "آتيناكم " لأنه قد تقدمه اسم ظاهر وهو "النبيين " ، إذ لو جرى على مقتضى تقدم الجلالة والنبيين لكان التركيب : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاهم من كتاب كذا ، قال بعضهم : "وفيه نظر لأن مثل هذا لا يسمى التفاتا في اصطلاحهم ، وإنما يسمى حكاية الحال ، ونظيره قولك : حلف زيد ليفعلن ولأفعلن ، فالغيبة مراعاة لتقدم الاسم الظاهر ، والتكلم حكاية لكلام الحالف ، والآية الكريمة من هذا " .
وأصل لتؤمنن به ولتنصرنه : لتؤمنونن ولتنصرونن ، فالنون الأولى علامة الرفع ، والمشددة بعدها للتوكيد ، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال فحذفوا نون الرفع لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد ، فالتقى بحذفها ساكنان ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين .
وقرأ : "مصدقا " نصب على الحال من النكرة ، وقد قاسه عبد الله وإن كان المشهور عنه خلافه ، وحسن ذلك هنا كون النكرة في قوة المعرفة من حيث إنه أريد بها شخص معين وهو سيبويه محمد صلى الله عليه وسلم . واللام في "لما " زائدة لأن العامل فرع وهو مصدق والأصل : مصدق ما معكم .
قوله : قال أأقررتم : فاعل "قال " يجوز أن يكون ضمير الله تعالى وهو الظاهر ، وأن يكون ضمير النبي الذي هو واحد النبيين ، خاطب بذلك [ ص: 294 ] أمته ، ومتعلق الإقرار محذوف ، أي : أأقررتم بذلك كله ، والاستفهام على الأول مجاز ، إذ المراد به التقرير والتوكيد عليهم لاستحالته في حق الباري تعالى ، وعلى الثاني هو استفهام حقيقة ، و "إصري " على الأول الياء لله تعالى وعلى الثاني للنبي .
وقرأ العامة "إصري " بكسر الهمزة وهي الفصحى ، وقرأ عن أبو بكر في رواية : "أصري " بضمها ، ثم المضموم يحتمل أن يكون لغة في المكسور وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكون جمع إصار ، ومثله أزر في جمع إزار ، وقد تقدم في أواخر البقرة الكلام عليه مشبعا . عاصم
وقوله : أقررنا أي : بالإيمان به وتبصرته . وفي الكلام حذف جملة أيضا ، حذفت لدلالة ما تقدم عليها ، إذ التقدير : قالوا : أقررنا وأخذنا إصرك على ذلك كله .
وقوله : فاشهدوا هذه الفاء عاطفة على جملة مقدرة تقديره : قال : أأقررتم فاشهدوا ، ونظير ذلك : "ألقيت زيدا " ؟ قال : "لقيته " ، قال : "فأحسن إليه " ، والتقدير : ألقيت زيدا فأحسن إليه ، فما فيه الفاء بعض المقول ، ولا جائز أن يكون كل المقول لأجل الفاء ، ألا ترى قوله : "قال : أأقررتم " وقوله : "قالوا : أقررنا " لما كان كل المقول لم يدخل الفاء ، قاله الشيخ ، والمعنى واضح بدونه .
قوله : من الشاهدين هذا هو الخبر لأنه محط الفائدة ، وأما قوله : "معكم " فيجوز أن يكون حالا أي : وأنا من الشاهدين مصاحبا لكم ، ويجوز [ ص: 295 ] أن يكون منصوبا بالشاهدين ظرفا له عند من يرى تجويز ذلك ، ويمتنع أن يكون هو الخبر إذ الفائدة به غير تامة في هذا المقام ، والجملة من قوله : وأنا معكم من الشاهدين يجوز ألا يكون لها محل لاستئنافها ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل "فاشهدوا " .