قوله : إن الله عليم بذات الصدور يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، أخبر تعالى بذلك ؛ لأنهم كانوا يخفون غيظهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد ، ويحتمل أن تكون جملة المقول أي : قل لهم كذا وكذا فتكون في محل نصب بالقول . ومعنى قوله "بذات " أي : بالمضمرات ذوات الصدور ، فـ "ذات " هنا تأنيث "ذي " بمعنى صاحب ، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه أي : عليم بالمضمرات صاحبة الصدور ، وجعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها وعدم انفكاكها عنها نحو : أصحاب الجنة ، أصحاب النار .
[ ص: 374 ] واختلفوا على الوقف على هذه اللفظة : هل يوقف عليها بالتاء أو بالهاء ؟
فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : "الوقف عليها بالتاء إتباعا لرسم المصحف " . وقال الكسائي والجرمي : "يوقف عليها بالهاء لأنها تاء تأنيث ، كهي في " صاحبه " . وموافقة الرسم أولى ، فإنه قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء ، فإذا وقفنا هنا بالتاء وافقنا تلك اللغة والرسم ، بخلاف عكسه .
قوله : لا يضركم قرأ نافع وابن كثير : " يضركم "بكسر الضاد وجزم الراء على جواب الشرط من ضاره يضيره ، ويقال أيضا : ضاره يضوره ، ففي العين لغتان . ويقال : ضاره يضيره ضيرا فهو ضائر وهو مضير ، وضاره يضوره ضورا فهو ضائر وهو مضور ، نحو : قلته أقوله فأنا قائل وهو مقول . وأبو عمرو
وقرأ الباقون : " يضركم "بضم الضاد وتشديد الراء مرفوعة . وفي هذه القراءة أوجه ، أحدها : أن الفعل مرتفع وليس بجواب للشرط ، وإنما هو دال على جواب الشرط ، وذلك أنه على نية التقديم ، إذ التقدير : لا يضركم أن تصبروا وتتقوا فلا يضركم " ، فحذف "فلا يضركم " الذي هو الجواب لدلالة ما تقدم عليه ، ثم أخر ما هو دليل على الجواب ، وهذا الذي ذكرته هو تخريج وأتباعه . وإنما احتاجوا إلى ارتكاب هذا الشطط لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجازم فيه ، ومثل هذا قول الآخر : سيبويه
1413 - يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع
[ ص: 375 ] برفع "تصرع " الأخير ، وكذلك قوله :
1414 - وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب مالي ولا حرم
برفع "يقول " إلا أن هذا النوع مطرد بخلاف ما قبله ، أعني كون فعلي الشرط والجزاء مضارعين فإن المنقول عن وأتباعه وجوب الجزم إلا في ضرورة كقوله : "إن يصرع أخوك تصرع " ، وتخريجه هذه الآية على ما ذكرته عنه يدل على أن ذلك لا يخص بالضرورة فاعلم ذلك : سيبويه
الوجه الثاني : أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدرة هي وما بعدها الجواب في الحقيقة ، والفعل متى وقع بعد الفاء رفع ليس إلا ، كقوله تعالى : ومن عاد فينتقم الله منه والتقدير : فلا يضركم ، والفاء حذفت في غير محل النزاع كقوله :
1415 - من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله سيان
أي : فالله يشكرها . وهذا الوجه رأيت بعضهم ينقله عن ، وفيه نظر ، من حيث إنهم لما أنشدوا البيت المذكور نقلوا عن المبرد أنه لا يجيز حذف هذه الفاء البتة لا ضرورة ولا غيرها ، وينقلون عنه أن كان يقول : "إنما الرواية في هذا البيت : المبرد
من يفعل الخير فالرحمن يشكره
[ ص: 376 ] وردوا عليه بأنه إذا صحت رواية فلا يقدح فيها غيرها . ورأيت بعضهم ينقله عن الفراء ، وهذا أقرب . والكسائي
الوجه الثالث : أن الحركة حركة إتباع ، وذلك أن الأصل : لا يضرركم بالفك لسكون الثاني جزما ، وسيأتي أنه إذا التقى مثلان في آخر فعل سكن ثانيهما جزما أو وقفا فللعرب فيه مذهبان : الإدغام - وهو لغة تميم والفك - وهو لغة الحجاز - ، لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك ، فاضطررنا إلى تحريك المثل الثاني فحركناه بأقرب الحركات إليه وهي الضمة التي على الحرف قبله ، فحركناه بها وأدغمنا ما قبله فيه فهو مجزوم تقديرا ، وهذه الحركة في الحقيقة حركة إتباع لا حركة إعراب بخلافها في الوجهين السابقين قبل هذا فإنها حركة إعراب .
واعلم أنه متى أدغم هذا النوع : فإما أن تكون فاؤه مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة ، فإن كانت مضمومة كالآية الكريمة وقولهم " مد "ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام : الضم للإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين فتقول : مد ومد ومد ، ورد ورد ورد . وينشدون على ذلك قول جرير :
1416 - فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا
بضم الضاد وفتحها وكسرها على ما ذكرته لك ، وسيأتي أن الآية قرئ فيها بالأوجه الثلاثة . وإن كانت مفتوحة نحو : عض ، أو مكسورة نحو : فر ، كان في اللام وجهان : الفتح والكسر ، إذ لا وجه للضم ، لكن لك في نحو : " فر " [ ص: 377 ] أن تقول الكسر من وجهين : إما الإتباع وإما التقاء الساكنين ، وكذلك لك في الفتح نحو : " عض "وجهان أيضا : إما الإتباع وإما التخفيف ، هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب ، فأما إذا اتصل به ضمير غائب نحو : " رده "ففيه تفصيل ولغات يكثر القول فيها ولا يليق التعرض لذلك في هذا النوع .
وقرأ فيما رواه عنه المفضل بضم الضاد وتشديد الراء مفتوحة على ما ذكرت لك من التخفيف ، وهي عندهم أوجه من ضم الراء . وقرأ عاصم : "لا يضركم " بضم الضاد وتشديد الراء مكسورة على ما ذكرته لك من التقاء الساكنين ، وكأن الضحاك بن مزاحم لم يحفظها قراءة فإنه قال : "وأما الكسر فلا أعرفها قراءة " . وعبارة ابن عطية في ذلك متجوز فيها إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة . قلت : قد بينت أنها قراءة كما قال الزجاج ولله الحمد . الزجاج
والكيد : المكر والاحتيال . وقال : "وهو نوع من الاحتيال ، وقد يكون ممدوحا ، وقد يكون مذموما ، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر " . قال الراغب : "وأصله من المشقة من قولهم : " فلان يكيد بنفسه "أي يجوز بها غمرات الموت ومشتقاته " . ويقال : كدت فلانا أكيده كبعته أبيعه . قال : ابن قتيبة
1417 - من يكدني بسيئ كنت منه كالشجا بين حلقه والوريد
[ ص: 378 ] وقرأ : "لا يضرركم " بالفك وهي لغة أبي الحجاز ، وعليها قوله تعالى : إن تمسسكم حسنة .
وقوله : "شيئا " منصوب نصب المصادر أي : شيئا من الضرر ، وقد تقدم نظيره ، وقرأ العامة : " بما يعملون محيط " بالغيبة وهي واضحة . وقرأ بالخطاب : إما على الالتفات وإما على إضمار "قل لهم يا الحسن محمد " .