وقيل: "لأن الهبوط الأول] من الجنة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض"، واستعبده بعضهم لأجل قوله: ولكم في الأرض مستقر .
وقال : "وحكى النقاش أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء، والأولى في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض وهو الأخير في الوقوع"، انتهى. ابن عطية
وقيل: كرر على سبيل التأكيد نحو قولك: قم قم، والضمير في "منها" يعود على الجنة أو السماء.
[ ص: 298 ] قوله: "جميعا" حال من فاعل "اهبطوا" أي: مجتمعين: إما في زمان واحد أو في أزمنة متفرقة؛ لأن المراد الاشتراك في أصل الفعل، وهذا [هو] الفرق بين: جاؤوا جميعا، وجاؤوا معا، فإن قولك "معا" يستلزم مجيئهم جميعا في زمن واحد لما دلت عليه "مع" من الاصطحاب، بخلاف "جميعا" فإنها لا تفيد إلا أنه لم يتخلف أحد منهم عن المجيء، من غير تعرض لاتحاد الزمان، وقد جرت هذه المسألة بين وغيره، فلم يعرفها ذاك الرجل فأفادها له ثعلب ثعلب.
و"جميع" في الأصل من ألفاظ التوكيد، نحو: "كل"، وبعضهم عدها معها.
وقال : وجميعا حال من الضمير في "اهبطوا" وليس بمصدر ولا اسم فاعل، ولكنه عوض منهما دال عليهما، كأنه قال: "هبوطا جميعا أو هابطين جميعا" كأنه يعني أن الحال في الحقيقة محذوف، وأن "جميعا" تأكيد له، إلا أن تقديره بالمصدر ينفي جعله حالا إلا بتأويل لا حاجة إليه. ابن عطية
وقال بعضهم: التقدير: قلنا اهبطوا مجتمعين فهبطوا جميعا، فحذف الحال من الأول لدلالة الثاني عليه، وحذف العامل من الثاني لدلالة الأول عليه، وهذا تكلف لم تدع إليه ضرورة.
قوله: فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع الآية.
الفاء مرتبة معقبة.
و"إما" أصلها: إن الشرطية زيدت عليها "ما" تأكيدا، و"يأتينكم" في محل [ ص: 299 ] جزم بالشرط؛ لأنه بني لاتصاله بنون التوكيد.
وقيل: بل هو معرب مطلقا.
وقيل: مبني مطلقا.
والصحيح: التفصيل: إن باشرته كهذه الآية بني، وإلا أعرب، نحو: هل يقومان؟ وبني على الفتح طلبا للخفة، وقيل: بل بني على السكون وحرك بالفتح لالتقاء الساكنين.
وذهب والمبرد إلى أن الفعل الواقع بعد إن الشرطية المؤكدة بـ"ما" يجب تأكيده بالنون، قالا: ولذلك لم يأت التنزيل إلا عليه. الزجاج
وذهب إلى أنه جائز لا واجب، لكثرة ما جاء به منه في الشعر غير مؤكد، فكثرة مجيئه غير مؤكد يدل على عدم الوجوب، فمن ذلك قوله: سيبويه
387 - فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا على رقة أحفى ولا أتنعل
وقول الآخر:
388 - يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الخلان من شيمي
وقول الآخر:
389 - زعمت تماضر أنني إما أمت يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
[ ص: 300 ] وقول الآخر:
390 - فإما تريني ولي لمة فإن الحوادث أودى بها
وقول الآخر:
391 - فإما تريني لا أغمض ساعة من الدهر إلا أن أكب فأنعسا
وقول الآخر:
392 - إما تريني اليوم أم حمز قاربت بين عنقي وجمزي
وقال المهدوي: "إما" هي إن التي للشرط زيدت عليها "ما" ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت "ما" لم تدخل النون، فـ"ما" تؤكد أول الكلام، والنون تؤكد آخره" وتبعه . ابن عطية
وقال بعضهم: "هذا الذي ذهبا إليه من أن "النون" لازمة لفعل الشرط إذا وصلت "إن" بـ"ما" هو مذهب المبرد انتهى. والزجاج"،
وليس في كلامهما [ ص: 301 ] ما يدل على لزوم النون كما ترى، غاية ما فيه أنهما اشترطا في صحة تأكيده بالنون زيادة "ما" على "إن"، أما كون التأكيد لازما أو غير لازم فلم يتعرضا له، وقد جاء تأكيد الشرط بغير "إن" كقوله:
393 - من نثقفن منهم فليس بآئب أبدا وقتل بني قتيبة شافي
و"مني" متعلق بـ"يأتين"، وهي لابتداء الغاية مجازا، ويجوز أن تكون في محل حال من "هدى"؛ لأنه في الأصل صفة نكرة قدم عليها، وهو نظير ما تقدم في قوله تعالى: من ربه كلمات و"هدى" فاعل، والفاء مع ما بعدها من قوله: فمن تبع جواب الشرط الأول، والفاء في قوله تعالى: فلا خوف جواب الثاني، وقد وقع الشرط [الثاني وجوابه جواب الأول، ونقل عن أن قوله: الكسائي فلا خوف جواب الشرطين] معا.
قال بعد نقله عن ابن عطية هكذا حكي وفيه نظر، ولا يتوجه أن يخالف الكسائي: هنا، وإنما الخلاف في نحو قوله: سيبويه فأما إن كان من المقربين فروح فيقول : جواب أحد الشرطين محذوف لدلالة قوله "فروح" عليه، ويقول الكوفيون "فروح" جواب الشرطين، وأما في هذه الآية فالمعنى يمنع أن يكون "فلا خوف" جوابا للشرطين. سيبويه
وقيل: جواب الشرط الأول محذوف [ ص: 302 ] تقديره: فإما يأتينكم مني هدى فاتبعوه، وقوله: فمن تبع جملة مستقلة، وهو بعيد أيضا.
و"من" يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر، ويجوز أن تكون موصولة، ودخلت الفاء في خبرها تشبيها لها بالشرط، ولا حاجة إلى هذا.
فإن كانت شرطية كان "تبع" في محل جزم، وكذا: "فلا خوف" لكونهما شرطا وجزاء، وإن كانت موصولة فلا محل لـ"تبع".
وإذا قيل بأنها شرطية فهي مبتدأ أيضا، ولكن في خبرها خلاف مشهور: الأصح أنه فعل الشرط، بدليل أنه يلزم عود ضمير من فعل الشرط على اسم الشرط، ولا يلزم ذلك في الجواب، تقول: من يقم أكرم زيدا، [فليس في "أكرم زيدا" ضمير يعود على "من" ولو كان خبرا للزم فيه ضمير] ، ولو قلت: "من يقم زيدا أكرمه" وأنت تعيد الهاء على "من" لم يجز لخلو فعل الشرط من الضمير.
وقيل: الخبر الجواب، ويلزم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائد على اسم الشرط، فلا يجوز عندهم: "من يقم أكرم زيدا" ولكنه جائز، هذا ما أورده . أبو البقاء
وسيأتي تحقيق القول في لزوم عود ضمير من الجواب إلى اسم الشرط عند قوله تعالى: من كان عدوا لجبريل .
وقيل: مجموع الشرط والجزاء هو الخبر لأن الفائدة إنما تحصل منهما.
وقيل: ما كان فيه ضمير عائد على المبتدأ فهو الخبر.
[ ص: 303 ] والمشهور: "هداي"، وقرئ: هدي، بقلب الألف ياء، وإدغامها في ياء المتكلم، وهي لغة هذيل، يقولون في عصاي: عصي، وقال شاعرهم يرثي بنيه:
394 - سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع
كأنهم لما لم يصلوا إلى ما تستحقه ياء المتكلم من كسر ما قبلها لكونه ألفا أتوا بما يجانس الكسرة، فقلبوا الألف ياء، وهذه لغة مطردة عندهم، إلا أن تكون الألف للتثنية فإنهم يثبتونها نحو: جاء مسلماي وغلاماي.
قوله: فلا خوف عليهم قد تقدم أنه يجوز أن يكون جوابا للشرط، فيكون في محل جزم، وأن يكون خبرا لـ"من" إذا قيل بأنها موصولة، وهو أولى لمقابلته بالموصول في قوله: والذين كفروا فيكون في محل رفع، و"لا" يجوز أن تكون عاملة عمل ليس، فيكون "خوف" اسمها، و"عليهم" في محل نصب خبرها، ويجوز أن تكون غير عاملة فيكون "خوف" مبتدأ، و"عليهم" في محل رفع خبره.
وهذا أولى مما قبله لوجهين، [ ص: 304 ] أحدهما: أن عملها عمل ليس قليل ولم يثبت إلا بشيء محتمل وهو قوله:
395 - تعز فلا شيء على الأرض باقيا ولا وزر مما قضى الله واقيا
والثاني: أن الجملة التي بعدها وهي: ولا هم يحزنون تعين أن تكون "لا" فيها غير عاملة لأنها لا تعمل في المعارف، فجعلها غير عاملة فيه مشاكلة لما بعدها، وقد وهم بعضهم فجعلها عاملة في المعرفة مستدلا بقوله:
396 - وحلت سواد القلب لا أنا باغيا سواها ولا في حبها متراخيا
فـ "أنا" اسمها و"باغيا" خبرها.
قيل: ولا حجة فيه لأن "باغيا" حال عاملها محذوف هو الخبر في الحقيقة تقديره: ولا أنا أرى باغيا، أو يكون التقدير: ولا أرى باغيا، فلما حذف الفعل انفصل الضمير.
وقرئ: "فلا خوف" بالرفع من غير تنوين، والأحسن فيه أن تكون الإضافة مقدرة أي: خوف شيء، وقيل: لأنه على نية الألف واللام، وقيل: حذف التنوين تخفيفا.
وقرئ: "فلا خوف" مبنيا على الفتح؛ لأنها [ ص: 305 ] لا التبرئة وهي أبلغ في النفي، ولكن الناس رجحوا قراءة الرفع، قال : لوجهين: أبو البقاء
أحدهما: أنه عطف عليه ما لا يجوز فيه إلا الرفع وهو قوله: "ولا هم"؛ لأنه معرفة، و"لا" لا تعمل في المعارف، فالأولى أن يجعل المعطوف عليه كذلك لتتشاكل الجملتان ، ثم نظره بقولهم: "قام زيد وعمرا كلمته" يعني في ترجيح النصب في جملة الاشتغال للتشاكل.
ثم قال: "والوجه الثاني من جهة المعنى، وذلك أن البناء يدل على نفي الخوف عنهم بالكلية، وليس المراد ذلك، بل المراد نفيه عنهم في الآخرة.
فإن قيل: لم لا يكون وجه الرفع أن هذا الكلام مذكور في جزاء من اتبع الهدى، ولا يليق أن ينفى عنهم الخوف اليسير ويتوهم ثبوت الخوف الكثير؟ قيل: الرفع يجوز أن يضمر معه نفي الكثير، تقديره: لا خوف كثير عليهم، فيتوهم ثبوت القليل، وهو عكس ما قدر في السؤال فبان أن الوجه في الرفع ما ذكرنا"، انتهى.
قوله تعالى: ولا هم يحزنون تقدم أنه جملة منفية وأن الصحيح أنها غير عاملة، و"يحزنون" في محل رفع خبرا للمبتدأ، وعلى هذا القول الضعيف يكون في محل نصب.
والخوف: الذعر والفزع، يقال: خاف يخاف فهو خائف والأصل: خوف بوزن علم، ويتعدى بالهمزة والتضعيف، قال تعالى: ونخوفهم ولا يكون إلا في الأمر المستقبل.
والحزن ضد السرور، وهو مأخوذ من [ ص: 306 ] الحزن، وهو ما غلظ من الأرض فكأنه ما غلظ من الهم، ولا يكون إلا في الأمر الماضي، يقال: حزن يحزن حزنا وحزنا، ويتعدى بالهمزة نحو: أحزنته، وحزنته بمعناه، فيكون فعل وأفعل بمعنى، وقيل: أحزنه حصل له حزنا.
وقيل: الفتحة معدية للفعل نحو: شترت عينه وشترها الله، وهذا على قول من يرى أن الحركة تعدي الفعل.
وقد قرئ باللغتين: "حزنه وأحزنه" وسيأتي تحقيقهما.