وفي نصب " طولا " ثلاثة أوجه أظهرها : أنه مفعول بـ "يستطع " ، وفي [ ص: 654 ] قوله : " أن ينكح " على هذا ثلاثة أقوال ، القول الأول : أنه في محل نصب بـ "طولا " على أنه مفعول بالمصدر المنون ؛ لأنه مصدر "طلت الشيء " أي : نلته ، والتقدير : ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات . ومثله قول : الفرزدق
1573 - إن الفرزدق صخرة ملمومة طالت فليس ينالها الأوعالا
أي : طالت الأوعال فلم تنلها ، وإعمال المصدر المنون كثير ، قال :
1574 - بضرب بالسيوف رؤوس قوم أزلنا هامهن عن المقيل
وقول الله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا ، وهذا الوجه ذهب [إليه ] . الفارسي
القول الثاني : أن "أن ينكح " بدل من "طولا " بدل الشيء من الشيء ؛ لأن الطول هو القدرة أو الفصل ، والنكاح قدرة وفصل .
القول الثالث : أنه على حذف حرف الجر ، ثم اختلف هؤلاء : فمنهم من قدره بـ "إلى " أي : طولا إلى أن ينكح ، ومنهم من قدره باللام ، أي : لأن ينكح ، وعلى هذين التقديرين فالجار في محل الصفة لـ "طولا " فيتعلق بمحذوف ، ثم لما حذف حرف الجر جاء الخلاف المشهور في محل "أن " أنصب هو أم جر ؟ وقيل : اللام المقدرة مع "أن " هي لام المفعول من أجله أي : طولا لأجل نكاحهن .
[ ص: 655 ] الوجه الثاني من نصب "طولا " أن يكون مفعولا له على حذف مضاف أي : ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات ، وعلى هذا فـ "أن ينكح " مفعول "يستطع " أي : ومن لم يستطع نكاح المحصنات لعدم الطول .
الوجه الثالث : أن يكون منصوبا على المصدر ، قال : "ويصح أن يكون " طولا "نصبا على المصدر ، والعامل فيه الاستطاعة لأنهما بمعنى ، و " أن ينكح "على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر " يعني أن الطول هو استطاعة في المعنى فكأنه قيل : ومن لم يستطع منكم استطاعة . ابن عطية
قوله : "فمما " الفاء قد تقدم أنها : إما جواب الشرط ، وإما زائدة في الخبر على حسب القولين في "من " . وفي هذه الآية سبعة أوجه ، أحدها : أنها متعلقة بفعل مقدر بعد الفاء تقديره : فلينكح مما ملكته أيمانكم ، و "ما " على هذا موصولة بمعنى الذي ، أي : النوع الذي ملكته ، ومفعول ذلك الفعل المقدر محذوف تقديره : فلينكح امرأة أو أمة مما ملكته أيمانكم ، فـ "مما " في الحقيقة متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة لذلك المفعول المحذوف ، و "من " للتبعيض نحو : أكلت من الرغيف ، و " من فتياتكم " في محل نصب على الحال من الضمير المقدر في "ملكت " العائد على "ما " الموصولة ، و "المؤمنات " صفة لـ "فتياتكم " .
الثاني : أن تكون "من " زائدة و "ما " هي المفعولة بذلك الفعل المقدر أي : فلينكح ما ملكته أيمانكم . الثالث : أن "من " في "من فتياتكم " زائدة ، و "فتياتكم " هو مفعول ذلك الفعل المقدر أي : فلينكح فتياتكم ، و "مما ملكت " متعلق بنفس الفعل ، و "من " لابتداء الغاية ، أو بمحذوف على أنه حال من "فتياتكم " قدم عليها ، و "من " للتبعيض . الرابع : أن مفعول "فلينكح " [ ص: 656 ] هو المؤمنات أي : فلينكح الفتيات المؤمنات ، و "مما ملكت " على ما تقدم في الوجه قبله ، و "من فتياتكم " حال من ذلك العائد المحذوف . الخامس : أن "مما " في محل رفع خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : فالمنكوحة مما ملكت . السادس : أن "ما " في "مما " مصدرية أي : فلينكح من ملك أيمانكم ، ولا بد أن يكون هذا المصدر واقعا موقع المفعول نحو : هذا خلق الله ليصح وقوع النكاح عليه . السابع - وهو أغربها ونقل عن جماعة منهم - : "أن في الآية تقديما وتأخيرا وأن التقدير : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض الفتيات ، فـ " بعضكم "فاعل ذلك الفعل المقدر ، فعلى هذا يكون قوله : ابن جرير والله أعلم بإيمانكم معترضا بين ذلك الفعل المقدر وفاعله . ومثل هذا لا ينبغي أن يقال .
قوله : والله أعلم بإيمانكم جملة من مبتدأ وخبر ، وجيء بها بعد قوله من فتياتكم المؤمنات ليفيد أن الإيمان الظاهر كاف في نكاح الأمة المؤمنة ظاهرا ، ولا يشترط في ذلك أن يعلم إيمانها علما يقينا ، فإن ذلك لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، وفيه تأنيس أيضا بنكاح الإماء فإنهم كانوا ينفرون من ذلك .
قوله : بعضكم من بعض مبتدأ وخبر أيضا ، جيء بهذه الجملة أيضا تأنيسا بنكاح الإماء كما تقدم ، والمعنى : أن بعضكم من جنس بعض في النسب والدين ، فلا يترفع الحر عن نكاح الأمة عند الحاجة إليه ، وما أحسن قول أمير المؤمنين : " علي
الناس من جهة التمثيل أكفاء ، أبوهم آدم والأم حواء
قوله : بإذن أهلهن متعلق بـ " انكحوهن " ، وقدر بعضهم مضافا محذوفا أي بإذن أهل ولايتهن ، وأهل ولاية نكاحهن هم الملاك . و " بالمعروف " فيه [ ص: 657 ] ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه متعلق بـ " وآتوهن " أي : آتوهن مهورهن بالمعروف . الثاني أنه حال من "أجورهن " أي : ملتبسات بالمعروف يعني غير ممطولة . والثالث : أنه متعلق بقوله : "فانكحوهن " أي : فانكحوهن بالمعروف بإذن أهلهن ومهر مثلهن والإشهاد عليه ، وهذا هو المعروف . وقيل : في الكلام حذف تقديره : وآتوهن أجورهن بإذن أهلهن ، فحذف من الثاني لدلالة الأول عليه نحو : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أي : الذاكرات الله . وقيل : ثم مضاف مقدر أي : وآتوا مواليهن أجورهن ، لأن الأمة لا يسلم لها شيء من المهر .
قوله : محصنات غير مسافحات حالان من مفعول "فآتوهن " ومحصنات على هذا بمعنى مزوجات . وقيل : محصنات حال من مفعول "فانكحوهن " ، ومحصنات على هذا بمعنى عفائف أو مسلمات ، والمعنى : فانكحوهن حال كونهن محصنات لا حال سفاحهن واتخاذهن للأخدان . وقد تقدم أن "محصنات " بكسر الصاد وفتحها ، وما معناها ، وأن "غير مسافحين " حال مؤكدة .
ولا متخذات عطف على الحال قبله . والأخدان مفعول بـ "متخذات " لأنه اسم فاعل ، وأخدان جمع "خدن " ، كـ : عدل وأعدال ، والخدن : الصاحب ، وقد تقدم أن المسافح هو المجاهر بالزنى ومتخذ الأخدان هو المستتر به ، وكذلك هو في النساء ، وكان الزنى في الجاهلية منقسما إلى هذين القسمين .
قوله : فإذا أحصن قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن : "أحصن " بضم الهمزة وكسر الصاد على البناء للمفعول ، والباقون [ ص: 658 ] بفتحهما على البناء للفاعل ، فمعنى الأولى : "فإذا أحصن بالتزوج " فالمحصن لهن هو الزوج ، ومعنى الثانية : "فإذا أحصن فروجهن أو أزواجهن " وهو واضح مما تقدم . عاصم
والفاء في "فإن " جواب "إذا " وفي "فعليهن " جواب "إن " ، فالشرط الثاني وجوابه مترتب على وجود الأول ، ونظيره : "إن أكلت فإن ضربت عمرا فأنت حر " لا يعتق حتى يأكل أولا ثم يضرب عمرا ثانيا ، ولو أسقطت الفاء الداخلة على "إن " في مثل هذا التركيب انعكس الحكم ، ولزم أن يضرب أولا ثم يأكل ثانيا . وهذا يعرف من قواعد النحو ، وهو أن الشرط الثاني يجعل حالا فيجب التلبس به أولا .
قوله : من العذاب متعلق بمحذوف ؛ لأنه حال من الضمير المستكن في صلة "ما " وهو "على " ، فالعامل فيها معنوي ، وهو في الحقيقة ما تعلق به هذا الجار ، ولا يجوز أن يكون حالا من "ما " المجرورة بإضافة "نصف " إليها ؛ لأن الحال لا بد أن يعمل فيها ما يعمل في صاحبها ، و "نصف " هو العامل في صاحبها الخفض بالإضافة ، ولكنه لا يعمل في الحال لأنه ليس من الأسماء العاملة ، إلا أن بعضهم يرى أنه إذا كان جزءا من المضاف جاز ذلك فيه ، والنصف جزء فيجوز ذلك .
قوله : ذلك لمن خشي "ذلك " مبتدأ ، و "لمن خشي " جار ومجرور خبره ، والمشار إليه بـ "ذلك " إلى نكاح الأمة المؤمنة لمن عدم الطول . والعنت في الأصل انكسار العظم بعد الجبر ، فاستعير لكل مشقة ، وأريد به هنا ما يجر إليه الزنى من العقاب الدنيوي والأخروي ، و "منكم " حال من الضمير [ ص: 659 ] في "خشي " أي : في حال كونه منكم . ويجوز أن تكون "من " للبيان .
قوله : وأن تصبروا خير لكم مبتدأ وخبر لتأوله بالمصدر وهو كقوله : وأن تعفوا أقرب للتقوى .