1590 - وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي : فمنهما تارة أموت فيها .
الثاني : - قول - وهو أن الجار والمجرور خبر مقدم أيضا ، ولكن المبتدأ المحذوف يقدره موصولا تقديره : "من الذين هادوا من يحرفون " ، ويكون قد حمل على المعنى في "يحرفون " ، قال الفراء : "ومثله : الفراء
1591 - فظلوا ومنهم دمعه سابق له وآخر يثني دمعة العين باليد
قال : " تقديره : "ومنهم من دمعه سابق له " . والبصريون لا يجيزون [ ص: 695 ] حذف الموصول لأنه جزء كلمة ، وهذا عندهم مؤول على حذف موصوف كما تقدم ، وتأويلهم أولى لعطف النكرة عليه وهو "آخر " ، و "أخرى " في البيت قبله ، فيكون في ذلك دلالة على المحذوف ، والتقدير : فمنهم عاشق سابق دمعه له وآخر .
الثالث : أن "من الذين " خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين هادوا ، و "يحرفون " على هذا حال من ضمير "هادوا " . وعلى هذه الأوجه الثلاثة يكون الكلام قد تم عند قوله "نصيرا " .
الرابع : أن يكون "من الذين " حالا من فاعل "يريدون " قاله ، ومنع أن يكون حالا من الضمير في "أوتوا " ومن "الذين " أعني في قوله : أبو البقاء ألم تر إلى الذين أوتوا قال : "لأن الحال لا تكون لشيء واحد إلا بعطف بعضها على بعض " . قلت : وهذه مسألة خلاف ، من النحويين من منع ، ومنهم من جوز وهو الصحيح .
الخامس : أن "من الذين " بيان للموصول في قوله : ألم تر إلى الذين أوتوا لأنهم يهود ونصارى فبينهم باليهود ، قال ، وفيه نظر من حيث إنه قد فصل بينهما بثلاث جمل وهي : "والله أعلم " إلى آخره ، وإذا كان الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما بالك بثلاث!! قاله الشيخ ، وفيه نظر فإن الجمل هنا متعاطفة ، والعطف يصير الشيئين شيئا واحدا . الزمخشري
[ ص: 696 ] السادس : أنه بيان لأعدائكم ، وما بينهما اعتراض أيضا وقد عرف ما فيه .
السابع : أنه متعلق بـ "نصيرا " ، وهذه المادة تتعدى بـ "من " . قال تعالى :
ونصرناه من القوم فمن ينصرنا من بأس الله على أحد تأويلين : إما على تضمين النصر معنى المنع أي : منعناه من القوم ، وكذلك : وكفى بالله مانعا بنصره من الذين هادوا ، وإما على جعل "من " بمعنى "على " والأول مذهب البصريين . فإذا جعلنا "من الذين " بيانا لما قبله فبم يتعلق ؟ ؟ والظاهر أنه يتعلق بمحذوف ، ويدل على ذلك أنهم قالوا في "سقيا لك " : إن "لك " متعلق بمحذوف لأنه بيان .
وقال : "وقيل : هو حال من " أعدائكم "أي : والله أعلم بأعدائكم كائنين من الذين هادوا ، والفصل بينهما مسدد فلم يمنع من الحال " . فقوله هذا يعطي أنه بيان لأعدائكم مع إعرابه له حالا فيتعلق بمحذوف ، لكن لا على ذلك الحذف المقصود في البيان . أبو البقاء
وقد ظهر مما تقدم أن "يحرفون " : إما لا محل له ، أو له محل رفع أو نصب على حسب ما تقدم . وقرأ أبو رجاء : "الكلام " وقرئ "الكلم " بكسر الكاف وسكون اللام جمع "كلمة " مخففة من كلمة ، ومعانيهما متقاربة . والنخعي
و عن مواضعه متعلق بـ "يحرفون " ، وذكر الضمير في "مواضعه " حملا على "الكلم " لأنها جنس .
[ ص: 697 ] وجاء هنا : عن مواضعه ، وفي المائدة : من بعد مواضعه قال : "أما " عن مواضعه "فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه ، وأما الزمخشري من بعد مواضعه فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره ، والمعنيان متقاربان " . قال الشيخ : "وقد يقال إنهما سيان ، لكنه حذف هنا وفي أول المائدة من بعد مواضعه ؛ لأن قوله " عن مواضعه "يدل على استقرار مواضع له ، وحذف في ثاني المائدة " عن مواضعه "لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنه تحريف عن مواضعه ، فالأصل : يحرفون الكلم من بعد مواضعه عنها ، فحذف هنا البعدية وهناك " عنها "توسعا في العبارة ، وكانت البداءة هنا بقوله " عن مواضعه "لأنه أخصر ، وفيه تنصيص باللفظ على " عن "وعلى المواضع وإشارة إلى البعدية " .
وقال أيضا : "والظاهر أنهم حيث وصفوا بشدة التمرد والطغيان وإظهار العداوة واشتراء الضلالة ونقض الميثاق جاء يحرفون الكلم عن مواضعه كأنهم حرفوها من أول وهلة قبل استقرارها في مواضعها وبادروا إلى ذلك ، ولذلك جاء أول المائدة كهذه الآية حيث وصفهم بنقض الميثاق وقسوة القلوب ، وحيث وصفوا باللين وترديد الحكم إلى الرسول جاء من بعد مواضعه كأنهم لم يبادروا إلى التحريف ، بل عرض لهم بعد استقرار الكلم في مواضعها فهما سياقان مختلفان " .
[ ص: 698 ] وقوله : ويقولون عطف على " يحرفون " ، وقد تقدم ، وما بعده في محل نصب به . قوله : غير مسمع في نصبه وجهان أحدهما : أنه حال ، والثاني : أنه مفعول به ، والمعنى : اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، فسمعك عنه ناب . قال - بعد حكايته نصبه على الحال وذكره المعنى المتقدم - : "ويجوز على هذا أن يكون " غير مسمع "مفعول " اسمع "أي : اسمع كلاما غير مسمع إياك لأن أذنك لا تعيه نبوا عنه " . وهذا الكلام ذو وجهين : يعني أنه يحتمل المدح والذم فبإرادة المدح تقدر : "غير مسمع مكروها " ، فيكون قد حذف المفعول الثاني ، لأن الأول قام مقام الفاعل ، وبإرادة الذم تقدر : "غير مسمع خيرا " ، وحذف المفعول الثاني أيضا . الزمخشري
وقال : "وقيل : أرادوا غير مسموع منك " ، وهذا القول نقله أبو البقاء عن ابن عطية ، وقال : "إنه حكاية عن الطبري الحسن " . قال ومجاهد : "ولا يساعده التصريف " يعني أن العرب لا تقول : "أسمعتك " بمعنى قبلت منك ، وإنما تقول : "أسمعته " بمعنى سببته ، و "سمعت منه " بمعنى : قبلت منه ، يعبرون بالسماع لا بالإسماع عن القبول مجازا ، وتقدم القول في ابن عطية راعنا في البقرة .
قوله : ليا بألسنتهم وطعنا فيهما وجهان أحدهما : أنهما مفعول من أجله ناصبهما : "ويقولون " . والثاني : أنهما مصدران في موضع الحال أي : لاوين وطاعنين . وأصل ليا : "لوي " من لوى يلوي ، فأدغمت الواو في الياء [ ص: 699 ] بعد قلبها ياء فهو مثل "طي " مصدر طوى يطوي . و "بألسنتهم " و "في الدين " متعلقان بالمصدرين قبلهما . ولو أنهم قالوا تقدم الكلام على ذلك في البقرة بأشبع قول .
قوله : لكان خيرا فيه قولان ، أظهرهما : أنه بمعنى أفعل ، ويكون المفضل عنه محذوفا ، أي : لو قالوا هذا الكلام لكان خيرا من ذلك الكلام . والثاني : أنه لا تفضيل فيه ، بل يكون بمعنى جيد وفاضل ، فلا حذف حينئذ ، والباء في "بكفرهم " للسببية .
قوله : إلا قليلا فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه منصوب على الاستثناء من "لعنهم " أي : لعنهم الله إلا قليلا منهم ، فإنهم آمنوا فلم يلعنهم . والثاني : أنه مستثنى من الضمير في "فلا يؤمنون " والمراد بالقليل وأضرابه . ولم يستحسن عبد الله بن سلام هذين الوجهين : أما الأول قال : لأن من كفر ملعون لا يستثنى منهم أحد . وأما الثاني : فلأن الوجه الرفع على البدل ؛ لأن الكلام غير موجب " . والثالث : أنه صفة لمصدر محذوف أي : إلا إيمانا قليلا ، وتعليله هو أنهم آمنوا بالتوحيد وكفروا مكي بمحمد صلى الله عليه وسلم وشريعته .
وعبر الزمخشري عن هذا التقليل بالعدم ، يعني أنهم لا يؤمنون البتة ، كقوله : وابن عطية
[ ص: 700 ]
1592 - قليل التشكي للمهم يصيبه ... ... ... ...
قال الشيخ : "وما ذكراه من أن التقليل يراد به العدم صحيح ، غير أن هذا التركيب الاستثنائي يأباه ، فإذا قلت : " لم أقم إلا قليلا "فالمعنى : انتفاء القيام إلا القليل فيوجد منك ، لا أنه دال على انتفاء القيام البتة بخلاف " قلما يقول ذلك أحد إلا زيد "و " قل رجل يفعل ذلك "فإنه يحتمل القليل المقابل للتكثير ، ويحتمل النفي المحض ، أما أنك تنفي ثم توجب ، ثم تريد بالإيجاب بعد النفي نفيا فلا ، لأنه يلزم أن تجيء " إلا "وما بعدها لغوا من غير فائدة ، لأن انتفاء القيام قد فهم من قولك : " لم أقم "فأي فائدة في استثناء مثبت يراد به انتفاء مفهوم من الجملة السابقة ؟ وأيضا فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعد " إلا "موافقا لما قبلها في المعنى ، والاستثناء يلزم أن يكون ما بعد " إلا "مخالفا لما قبلها فيه " .