قوله: يا معشر في محل نصب بذلك القول المضمر أي: يقول أو قلنا، وعلى تقدير يكون في محل رفع لقيامه مقام الفاعل المنوب عنه. والمعشر: الجماعة قال: الزجاج
2056 - وأبغض من وضعت إلي فيه لساني معشر عنهم أذود
[ ص: 149 ] والجمع: معاشر، كقوله عليه السلام: وقال "نحن معاشر الأنبياء لا نورث"، الأودي: 2057 - فينا معاشر لن يبنوا لقومهم وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
وقوله من الإنس في محل نصب على الحال أي: أولياءهم حال كونهم من الإنس، ويجوز أن تكون "من" لبيان الجنس; لأن أولياءهم كانوا إنسا وجنا والتقدير: أولياؤهم الذين هم الإنس. وربنا حذف منه حرف النداء. والجمهور على "أجلنا" بالإفراد لقوله " الذي " . وقرئ "آجالنا" بالجمع على أفعال، "الذي" بالإفراد والتذكير، وهو نعت للجمع، فقال "هو جنس أوقع الذي موقع التي". قال الشيخ: "وإعرابه عندي بدل كأنه قيل: الوقت الذي، وحينئذ يكون جنسا ولا يكون إعرابه نعتا لعدم المطابقة بينهما". أبو علي:
قوله "خالدين" منصوب على الحال وهي حال مقدرة. وفي العامل فيها ثلاثة أوجه أحدها: أنه "مثواكم" لأنه هنا اسم مصدر لا اسم مكان، والمعنى: النار ذات ثوائكم، أي: إقامتكم في هذه الحال، ولذلك رد على الفارسي حيث قال: المثوى المقام أي: النار مكان ثوائكم أي إقامتكم. قال الزجاج المثوى عندي في الآية اسم المصدر دون المكان لحصول الحال معملا فيها، واسم المكان لا يعمل عمل الفعل لأنه لا معنى للفعل فيه، وإذا لم يكن مكانا ثبت أنه مصدر، والمعنى: النار ذات إقامتكم فيها خالدين، [ ص: 150 ] فالكاف والميم في المعنى فاعلون وإن كان في اللفظ خفضا بالإضافة، ومثل هذا قول الشاعر: الفارسي:
2058 - وما هي إلا في إزار وعلقة مغار ابن همام على حي خثعما
وهذا يدل على حذف المضاف، المعنى: وما هي إلا إزار وعلقة وقت إغارة ابن همام، ولذلك عداه بعلى، ولو كان مكانا لما عداه فثبت أنه اسم مصدر لا مكان فهو كقولك: "آتيك خفوق النجم ومقدم الحاج" ثم قال: "وإنما حسن ذلك في المصادر لمطابقتها الزمان، ألا ترى أنه متقض غير باق كما أن الزمان كذلك"، وذكر كلاما كثيرا اختصرته.
والثاني: أن العامل فيها فعل محذوف، أي: يثوون فيها خالدين، ويدل على هذا الفعل المقدر "مثواكم" ويراد بمثواكم مكان الثواء. وهذا جواب عن قول المعترض به على الفارسي الثالث: قاله الزجاج. أن العامل معنى الإضافة، ومعنى الإضافة لا يصلح أن يكون عاملا البتة فليس بشيء. أبو البقاء
قوله: إلا ما شاء الله اختلفوا في المستثنى منه، فقال الجمهور: هو الجملة التي تليها وهي قوله: النار مثواكم خالدين فيها وسيأتي بيانه عن قرب. وقال أبو مسلم: هو مستثنى من قوله: "وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا" أي: إلا من أهلكته واخترمته قبل الأجل الذي سميته لكفره وضلاله.
وقد رد الناس عنه هذا المذهب من حيث الصناعة ومن حيث المعنى: أما الصناعة فمن وجهين أحدهما: أنه لو كان الأمر كذلك لكان التركيب إلا [ ص: 151 ] ما شئت، ليطابق قوله" أجلت"، والثاني: أنه قد فصل بين المستثنى والمستثنى منه بقوله: "قال النار مثواكم خالدين فيها"، ومثل ذلك لا يجوز. وأما المعنى فلأن القول بالأجلين: أجل الاخترام والأجل المسمى باطل لدلائل مقررة في غير هذا الموضوع.
ثم اختلفوا في هذا الاستثناء: هل هو متصل أو منقطع؟ على قولين فذهب مكي بن أبي طالب في أحد قوليهما إلى أنه منقطع والمعنى: قال النار مثواكم إلا من آمن منكم في الدنيا كقوله: وأبو البقاء لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي: لكن الموتة الأولى فإنهم قد ذاقوها في الدنيا، كذلك هذا، لكن الذين شاءهم الله أن يؤمنوا منكم في الدنيا. وفيه بعد، وذهب آخرون إلى أنه متصل، ثم اختلفوا في المستثنى منه ما هو؟ فقال قوم: هو ضمير المخاطبين في قوله "مثواكم" أي: إلا من آمن في الدنيا بعد أن كان من هؤلاء الكفرة. و "ما" هنا بمعنى "من" التي للعقلاء، وساغ وقوعها هنا لأن المراد بالمستثنى نوع وصنف، و "ما" تقع على أنواع من يعقل وقد تقدم تحقيق هذا في قوله: فانكحوا ما طاب لكم من النساء .
ولكن قد استبعد هذا من حيث إن المستثنى مخالف للمستثنى منه في زمان الحكم عليهما، ولا بد أن يشتركا في الزمان لو قلت: "قام القوم إلا زيدا" كان معناه إلا زيدا فإنه لم يقم، ولا يصح أن يكون المعنى: فإنه سيقوم في المستقبل، ولو قلت: "سأضرب القوم إلا زيدا" كان معناه: فإني لا أضربه في المستقبل، ولا يصح أن يكون المعنى: فإني ضربته فيما مضى، اللهم إلا أن يجعل استثناء منقطعا كما تقدم تفسيره. [ ص: 152 ] وذهب قوم إلى أن المستثنى منه زمان، ثم اختلف القائلون بذلك، فمنهم من قال: ذلك الزمان هو مدة إقامتهم في البرزخ أي: القبور. وقيل: هو المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار، وهذا قول قال: "وساغ ذلك من حيث العبارة بقوله" النار مثواكم "لا يخص بها مستقبل الزمان دون غيره" . وقال الطبري "هو مجموع الزمانين أي: مدة إقامتهم في القبور ومدة حشرهم إلى دخولهم النار" . وقال الزجاج: "إلا ما شاء الله أي: يخلدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء الله إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يقطع أوصالهم فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم" وقال قوم: "إلا ما شاء الله هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد، ووقعت" ما "عليهم لأنهم نوع كأنه قيل: إلا النوع الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يخلدون فيها. والظاهر أن هذا استثناء حقيقة، بل يجب أن يكون كذلك. وزعم الزمخشري: أنه يكون من باب قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب أن ينفس عن خناقه: "أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت" وقد علم أنه لا يشاء ذلك إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التشديد والتعنيف، فيكون قوله: " إلا إذا شئت " من أشد الوعيد مع تهكم. قلت: ولا حاجة إلى ادعاء ذلك مع ظهور معنى الاستثناء فيه وارتكاب المجاز وإبراز ما لم يقع في صورة الواقع. وقال الزمخشري "إلا ما شاء الله أي: من كونهم في الدنيا بغير عذاب" ، فجعل المستثنى زمن حياتهم وهو أبعد مما تقدم. [ ص: 153 ] وقال الحسن البصري: وإليه نحا الفراء: "المعنى إلا ما شاء الله من زيادة في العذاب" . وقال غيره: إلا ما شاء الله من النكال، وكل هذا إنما يتمشى على الاستثناء المنقطع. الزجاج،
قال الشيخ: "وهذا راجع إلى الاستثناء من المصدر الذي يدل عليه معنى الكلام; إذ المعنى: يعذبون في النار خالدين فيها إلا ما شاء الله من العذاب الزائد على النار فإنه يعذبهم به، ويكون إذ ذاك استثناء منقطعا إذ العذاب الزائد على عذاب النار لم يندرج تحت عذاب النار" . وقال ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، وليس مما يقال يوم القيامة، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله، كأنه لما أخبرهم أنه يقال للكفار: النار مثواكم استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافرا، وتقع "ما" على صفة من يعقل، ويؤيد هذا التأويل أيضا قوله: ابن عطية: إن ربك حكيم عليم أي: بمن يمكن أن يؤمن منهم. قال الشيخ: وهو تأويل حسن، وكان قد قال قبل ذلك: والظاهر أن هذا الاستثناء هو من كلام الله تعالى للمخاطبين وعليه جاءت تفاسير الاستثناء، وقال ثم ساقه إلى آخره، فكيف يستحسن شيئا حكم عليه بأنه خلاف الظاهر من غير قرينة قوية مخرجة للفظ عن ظاهره؟. ابن عطية: