وفي هذه الآية قراءات كثيرة، والمتواتر منها ثنتان، الأولى: قرأ العامة "زين" مبنيا للفاعل و "قتل" نصب على المفعولية و "أولادهم" خفض بالإضافة، و "شركاؤهم" رفع على الفاعلية وهي قراءة واضحة المعنى والتركيب. وقرأ "زين" مبنيا للمفعول، "قتل" رفعا على ما لم يسم فاعله، [ ص: 162 ] "أولادهم" نصبا على المفعول بالمصدر، "شركائهم" خفضا على إضافة المصدر إليه فاعلا. وهذه القراءة متواترة صحيحة، وقد تجرأ كثير من الناس على قارئها بما لا ينبغي، وهو أعلى القراء السبعة سندا وأقدمهم هجرة: أما علو سنده فإنه قرأ على ابن عامر: أبي الدرداء وواثلة بن الأسقع وفضالة بن عبيد ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة المخزومي، ونقل يحيى الذماري أنه قرأ على نفسه، وأما قدم هجرته فإنه ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناهيك به أن عثمان أحد شيوخ هشام بن عمار أخذ عن أصحاب أصحابه، وترجمته متسعة ذكرتها في "شرح القصيد"، وإنما ذكرت هنا هذه العجالة تنبيها على خطأ من رد قراءته ونسبه إلى لحن أو اتباع مجرد المرسوم فقط. البخاري
قال "وهذا يعني الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف أو غيره، ولا يجوز في شعر ولا غيره". وهذا خطأ من أبو جعفر النحاس: [ ص: 163 ] لما سنذكره من لسان أبي جعفر العرب، وقال "هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها يعني أبو علي الفارسي: كان أولى لأنهم لم يفصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظروف، وإنما أجازوه في الشعر"، قال: وقد فصلوا به - أي بالظرف- في كثير من المواضع نحو قوله تعالى: ابن عامر إن فيها قوما جبارين
وقول الشاعر:
2061 - على أنني بعدما قد مضى ثلاثون للهجر حولا كميلا
وقول الآخر:
2062 - فلا تلحني فيها فإن بحبها أخاك مصاب القلب جم بلابله
ففصل بين إن واسمها بما يتعلق بخبرها، ولو كان بغير الظرف لم يجز، ألا ترى أنك لو قلت: "إن زيدا عمرا ضارب" على أن يكون "زيدا" منصوبا بضارب لم يجز، فإذا لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه في الكلام بالظرف مع اتساعهم فيه في الكلام، وإنما يجوز في الشعر كقوله:
2063 - كما خط الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل
فأن لا يجوز بالمفعول به الذي لم يتسع فيه بالفصل أجدر، ووجه ذلك [ ص: 164 ] على ضعفه وقلة الاستعمال أنه قد جاء في الشعر على حد ما قرأه. قال الطرماح:
2064 - يطفن بحوزي المراتع لم ترع بواديه من قرع القسي الكنائن
وأنشد أبو الحسن:
2065 - . . . . . . . . . . . . . . . زج القلوص أبي مزاده
وقال وكان أبو عبيد: عبد الله بن عامر وأهل الشام يقرءونها "زين" بضم الزاي، "قتل" بالرفع، "أولادهم" بالنصب، "شركائهم" بالخفض، ويتأولون "قتل شركائهم أولادهم" فيفرقون بين الفعل وفاعله. قال ولا أحب هذه القراءة لما فيها من الاستكراه، والقراءة عندنا هي الأولى لصحتها في العربية مع إجماع أهل الحرمين والمصرين أبو عبيد: بالعراق عليها. وقال في قولهم: " يا سارق الليلة أهل الدار" بخفض "الليلة" على التجوز وبنصب الأهل على المفعولية، ولا يجوز "يا سارق الليلة أهل الدار" إلا في شعر كراهة أن يفصلوا بين الجار والمجرور. ثم قال: ومما جاء في الشعر قد فصل بينه [ ص: 165 ] وبين المجرور قول سيبويه عمرو بن قميئة:
2066 - لما رأت ساتيد ما استعبرت لله در اليوم من لامها
وذكر أبياتا أخر ستأتي. ثم قال: وهذا قبيح، ويجوز في الشعر على هذا: "مررت بخير وأفضل من ثم". وقال "الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار والمجرور كثير لكنه من ضرورة الشاعر". وقال أبو الفتح ابن جني: ومن قرأ هذه القراءة ونصب "الأولاد" وخفض "الشركاء" فهي قراءة بعيدة، وقد رويت عن مكي بن أبي طالب: ومجازها على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وذلك إنما يجوز عند النحويين في الشعر، وأكثر ما يكون بالظرف. وقال ابن عامر، رحمه الله: وهذه قراءة ضعيفة في استعمال ابن عطية العرب وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في شعر كما قال:
2067 - كما خط الكتاب بكف يوما يهودي . . . . . . . . . . . . .
البيت فكيف بالمفعول في أفصح كلام؟ ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت في بيت شاذ أنشده أبو الحسن الأخفش:
2068 - فزججتها بمزجة زج القلوص أبي مزاده
2069 - يطفن بحوزي المراتع لم ترع بواديه من قرع القسي الكنائن
وقال فأغلظ وأساء في عبارته، وأما قراءة الزمخشري فذكرها فشيء لو كان في مكان الضرورة وهو الشعر لكان سميحا مردودا كما سمج ورد: ابن عامر
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . زج القلوص أبي مزاده
وهذه الأقوال التي ذكرتها جميعا لا ينبغي أن يلتفت إليها لأنها طعن في المتواتر، وإن كانت صادرة على أئمة أكابر، وأيضا فقد انتصر لها من يقابلهم، وأورد من لسان العرب نظمه ونثره ما يشهد لصحة هذه القراءة لغة: قال "هذه قراءة صحيحة، وإذا كانت أبو بكر ابن الأنباري: العرب قد فصلت بين [ ص: 167 ] المتضايفين بالجملة في قولهم: "هو غلام إن شاء الله أخيك" يريدون: هو غلام أخيك فأن يفصل بالمفرد أسهل "انتهى. وسمع قول بعضهم: "إن الشاة لتجتر فتسمع صوت والله ربها" أي: صوت ربها والله، ففصل بالقسم وهو في قوة الجملة، وقرأ بعض السلف: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) بنصب "وعده" وخفض "رسله"، وفي الحديث عنه عليه السلام: الكسائي "هل أنتم تاركو لي صاحبي، تاركو لي امرأتي" أي: تاركو صاحبي لي، تاركو امرأتي لي.
وقال في "الخصائص": "باب ما يرد عن العربي مخالفا للجمهور، إذا اتفق شيء من ذلك: نظر في ذلك العربي وفيما جاء به، فإن كان فصيحا وكان ما جاء به يقبله القياس فيحسن الظن به; لأنه يمكن أن يكون قد وقع إليه ذلك من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها. أخبرنا ابن جني أبو بكر جعفر بن محمد بن أبي الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: قال ابن عوف عن قال ابن سيرين: رضي الله عنه: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه عمر بن الخطاب العرب بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا إلى كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من هلك من العرب بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم كثيره".
قال: وحدثنا عن أبو بكر أبي خليفة عن يونس بن حبيب عن قال: "ما انتهى إليكم مما قالت أبي عمرو بن العلاء: العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير". قال أبو الفتح: "فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح [إذا] سمع منه [ ص: 168 ] ما يخالف الجمهور بالخطأ ما وجد طريق إلى تقبل ما يورده إلا إذا كان القياس يعاضده". قلت: وقراءة هذا الإمام بهذه الحيثية بل بطريق الأولى والأحرى لو لم تكن متواترة فكيف وهي متواترة؟ وقال ابن ذكوان: "سألني عن هذا الحرف وما بلغه من قراءتنا فرأيته كأنه أعجبه وترنم بهذا البيت: الكسائي
2070 - تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
بنصب "الدراهيم" وجر "تنقاد"، وقد روي بخفض "الدراهيم" ورفع "تنقاد" وهو الأصل وهو المشهور في الرواية. وقال الكرماني:" قراءة وإن ضعفت في العربية للإحالة بين المضاف والمضاف إليه فقوية في الرواية عالية". انتهى. وقد سمع ممن يوثق بعربيته: "ترك يوما نفسك وهواها سعي في رداها" أي: ترك نفسك يوما مع هواها سعي في هلاكها، وأما ما ورد في النظم من الفصل بين المتضايفين بالظرف وحرف الجر وبالمفعول فكثير وبغير ذلك قليل، فمن الفصل بالظرف قول الشاعر: ابن عامر
2071 - فرشني بخير لا أكونن ومدحتي كناحت يوما صخرة بعسيل
تقديره: كناحت صخرة يوما، ومثله قول الآخر:
2072 - كما خط الكتاب بكف يوما يهودي. . . . . . . . . . . . . . . .
وقول الآخر:
2073 - قد سألتني أم عمرو عن ال أرض التي تجهل أعلامها
[ ص: 169 ] لما رأت ساتيد ما استعبرت لله در اليوم من لامها
تذكرت أرضا بها أهلها أخوالها فيها وأعمامها
يريد: لله در من لامها اليوم. و "ساتيد ما" قيل: هو مركب والأصل: ساتي دما، ثم سمي به هذا الجبل لأنه قتل عنده. قيل: ولا تبرح القتلى عنده. وقيل: "ساتيد" كله اسم و "ما" مزيدة. ومثال الفصل بالجار قوله:
2074 - هما أخوا في الحرب من لا أخاله إذا خاف يوما نبوة فدعاهما
وقوله:
2075 - لأنت معتاد في الهيجا مصابرة يصلى بها كل من عاداك نيرانا
وقوله:
2076 - كأن أصوات من إيغالهن بنا أواخر الميس أصوات الفراريج
وقوله:
2077 - تمر على ما تستمر وقد شفت غلائل عبد القيس منها صدورها
ومن الفصل بالمفعول قول الشاعر:
2078 - فزججتها بمزجة زج القلوص أبي مزاده
ويروى: فزججتها فتدافعت، ويروى: فزججتها متمكنا، وهذا البيت كما تقدم أنشده بنصب "القلوص" فاصلا بين المصدر وفاعله المعنوي، إلا أن الأخفش قال بعد إنشاده لهذا البيت: "ونحويو أهل الفراء المدينة ينشدون هذا البيت يعني بنصب القلوص" قال: "والصواب: زج القلوص بالخفض" قلت قوله: "والصواب" يحتمل أن يكون من حيث الرواية، أي: إن الصواب خفضه على الرواية الصحيحة، وأن يكون من حيث القياس، وإن لم يرو إلا بالنصب. وقال في موضع آخر من كتابه "معاني القرآن": "وهذا مما كان يقوله نحويو أهل الحجاز ولم نجد مثله في العربية" وقال أبو الفتح: فصل بينهما بالمفعول به هذا مع قدرته على أن يقول: زج القلوص أبو مزادة كقولك: "سرني أكل الخبز زيد" بمعنى أنه كان ينبغي أن يضيف المصدر إلى مفعوله فيبقى الفاعل مرفوعا على أصله، وهذا معنى قول الأول، "والصواب جر القلوص" يعني ورفع الفاعل. ثم قال الفراء وفي هذا البيت عندي دليل على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم، وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول، ألا تراه ارتكب هذه الضرورة مع تمكنه من تركها لا لشيء غير الرغبة في إضافة المصدر إلى [ ص: 171 ] الفاعل دون المفعول، ومن الفصل بالمفعول به أيضا قول الآخر: ابن جني:
2079 - وحلق الماذي والقوانس فداسهم دوس الحصاد الدائس
أي: دوس الدائس الحصاد. ومثله أيضا:
2080 - يفرك حب السنبل الكنافج بالقاع فرك القطن المحالج
يريد: فرك المحالج القطن، وقول الطرماح:
2081 - . . . . . . . . . . . . . . . . . بواديه من قرع القسي الكنائن
يريد: قرع الكنائن القسي، قال في هذا البيت:" لم نجد فيه بدا من الفصل لأن القوافي مجرورة". وقال في "زج القلوص": فصل بينهما بالمفعول به هذا مع قدرته إلى آخر كلامه المتقدم. يعني أنه لو أنشد بيت ابن جني الطرماح بخفض "القسي" ورفع الكنائن لم يجز لأن القوافي مجرورة بخلاف بيت فإنه لو خفض "القلوص" ورفع "أبو مزادة" لم تختلف فيه قافيته ولم ينكسر وزنه. قلت: ولو رفع "الكنائن" في البيت لكان جائزا وإن كانت القوافي مجرورة ويكون ذلك إقواء، وهو أن تكون بعض القوافي مجرورة وبعضها مرفوعة كقول الأخفش، امرئ القيس:
2082 - تخدي على العلات سام رأسها روعاء منسمها رثيم دام
[ ص: 172 ] ثم قال:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام
فالميم مخفوضة في الأول مرفوعة في الثاني، فإن قيل: هذا عيب في الشعر. قيل: لا يتقاعد ذلك عن أن يكون مثل هذه للضرورة، والحق إن الإقواء أفحش وأكثر عيبا من الفصل المذكور، ومن ذلك أيضا:
2083 - فإن يكن النكاح أحل شيء فإن نكاحها مطر حرام
أي: فإن نكاح مطر إياها، فلما قدم المفعول فاصلا بين المصدر وفاعله اتصل بعامله لأنه قدر عليه متصلا فلا يعدل إليه منفصلا. وقد وقع في شعر أبي الطيب الفصل بين المصدر المضاف إلى فاعله بالمفعول كقوله:
2084 - بعثت إليه من لساني حديقة سقاها الحيا سقي الرياض السحائب
أي: سقي السحائب الرياض. وأما الفصل بغير ما تقدم فهو قليل، فمنه الفصل بالفاعل كقوله:
2085 - . . . . . . . . . . . . . . . . غلائل عبد القيس منها صدورها
ففصل بين "غلائل" وبين "صدورها" بالفاعل وهو "عبد القيس" وبالجار وهو "منها" كما تقدم بيانه، ومثله قول الآخر: [ ص: 173 ]
2086 - نرى أسهما للموت تصمي ولا تنمي ولا ترعوي عن نقض أهواؤنا العزم
فأهواؤنا فاعل بالمصدر وهو "نقض" وقد فصل به بين المصدر وبين المضاف إليه وهو العزم، ومثله قول الآخر:
2087 - أنجب أيام والداه به إذ نجلاه فنعم ما نجلا
يريد: أيام إذ نجلاه، ففصل بالفاعل وهو "والداه" المرفوع بـ "أنجب" بين المتضايفين وهما "أيام إذ ولداه" . قال "يجوز الفصل بين المصدر والمضاف إليه بالمفعول لكونه في غير محله، ولا يجوز بالفاعل لكونه في محله، وعليه قراءة ابن خروف: . قلت: هذا فرق بين الفاعل والمفعول حيث استحسن الفصل بالمفعول دون الفاعل. ومن الفصل بغير ما تقدم أيضا الفصل بالنداء كقوله: ابن عامر"
2088 - وفاق كعب بجير منقذ لك من تعجيل مهلكة والخلد في سقر
وقول الآخر:
2089 - إذا ما أبا حفص أتتك رأيتها على شعراء الناس يعلو قصيدها
وقول الآخر: [ ص: 174 ]
2090 - كأن برذون أبا عصام زيد حمار دق باللجام
يريد: وفاق بجير يا وإذا ما أتتك يا كعب، أبا حفص، وكأن برذون زيد يا أبا عصام. ومن الفصل أيضا الفصل بالنعت كقول يخاطب به معاوية عمرو بن العاص:
2091 - نجوت وقد بل المرادي سيفه من ابن أبي شيخ الأباطح طالب
وقول الآخر:
2092 - ولئن حلفت على يديك لأحلفن بيمين أصدق من يمينك مقسم
يريد: من ابن أبي طالب شيخ الأباطح، فشيخ الأباطح نعت لأبي طالب، فصل به بين أبي وبين طالب، ويريد: لأحلفن بيمين مقسم أصدق من يمينك، فأصدق نعت لقوله بيمين، فصل به بين "يمين" وبين "مقسم" . ومن الفصل أيضا الفصل بالفعل الملغى:
2093 - ألا يا صاحبي قفا المهارى نسائل حي بثنة أين سارا
بأي تراهم الأرضين حلوا أالدبران أم عسفوا الكفارا
يريد: بأي الأرضين تراهم حلوا، ففصل بقوله "تراهم" بين "أي" وبين "الأرضين" .
ومن الفصل أيضا الفصل بمفعول ليس معمولا للمصدر [ ص: 175 ] المضاف إلى فاعل كقول الشاعر:
2094 - تسقي امتياحا ندى المسواك ريقتها كما تضمن ماء المزنة الرصف
أي: تسقي ندى ريقتها المسواك فالمسواك مفعول به ناصبه "تسقي" فصل به بين "ندى" وبين "ريقتها" ، وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن قراءة صحيحة من حيث اللغة كما هي صحيحة من حيث النقل، ولا التفات إلى قول من قال: إنه اعتمد في ذلك على رسم مصحف الشام الذي أرسله ابن عامر رضي الله عنه؛ لأنه لم يوجد فيه إلا كتابة "شركائهم" بالياء، وهذا وإن كان كافيا في الدلالة على جر "شركائهم" فليس فيه ما يدل على نصب "أولادهم" إذ المصحف مهمل من شكل ونقط فلم يبق له حجة في نصب الأولاد إلا النقل المحض. عثمان بن عفان
وقد نقل عن أنه قرأ بجر "الأولاد" كما سيأتي بيانه وتخريجه، وأيضا فليس رسمها "شركائهم" بالياء مختصا بمصحف ابن عامر الشام بل هي كذلك أيضا في مصحف أهل الحجاز. قال أبو البرهسم: في سورة الأنعام في إمام أهل الشام وأهل الحجاز "أولادهم شركائهم" بالياء، وفي إمام أهل العراق "شركاؤهم" ولم يقرأ أهل الحجاز بالخفض في "شركائهم" لأن الرسم سنة متبعة قد توافقها التلاوة وقد لا توافق. إلا أن الشيخ أبا شامة قال:" قلت ولم ترسم كذلك إلا باعتبار قراءتين: فالمضموم عليه قراءة معظم القراء"، ثم قال: "وأما شركائهم بالخفض فيحتمل قراءة وسيأتي كلام ابن عامر". أبي شامة هذا [ ص: 176 ] بتمامه في موضعه، وإنما أخذت منه [بقدر] الحاجة هنا. فقوله: "إن كل قراءة تابعة لرسم مصحفها" تشكل بما ذكرت لك من أن مصحف الحجازيين بالياء مع أنهم لم يقرءوا بذلك. وقد نقل أن "شركائهم" بالياء إنما هو في مصحف أبو عمرو الداني الشام دون مصاحف الأمصار فقال: في مصاحف أهل الشام "أولادهم شركائهم" بالياء وفي سائر المصاحف "شركاؤهم" بالواو. قلت: هذا هو المشهور عند الناس أعني اختصاص الياء بمصاحف الشام، ولكن أبو البرهسم ثقة أيضا فنقبل ما ينقله. وقد تقدم قول والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوبا بالياء. الزمخشري:
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: ولا بعد فيما استبعده أهل النحو من جهة المعنى وذلك أنه قد عهد تقدم المفعول على الفاعل المرفوع لفظا فاستمرت له هذه المرتبة مع الفاعل المرفوع تقديرا فإن المصدر لو كان منونا لجاز تقديم المفعول على فاعله نحو: "أعجبني ضرب عمرا زيد" فكذا في الإضافة وقد ثبت جواز الفصل بين حرف الجر ومجروره مع شدة الاتصال بينهما أكثر من شدته بين المضاف والمضاف إليه كقوله تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم ، فبما رحمة فـ "ما" زائدة في اللفظ فكأنها ساقطة فيه لسقوطها في المعنى، والمفعول المقدم هو غير موضعه معنى فكأنه مؤخر لفظا، ولا التفات إلى قول من زعم أنه لم يأت في الكلام المنثور مثله لأنه ناف، ومن أسند هذه القراءة مثبت، والإثبات مرجح على النفي بإجماع، ولو نقل إلى هذا الزاعم عن بعض العرب أنه استعمله في النثر لرجع إليه فما باله لا يكتفي بناقل القراءة من التابعين عن الصحابة؟ ثم الذي حكاه يعني [ ص: 177 ] مما تقدم حكايته من قولهم: "هو غلام إن شاء الله أخيك" فيه الفصل في غير الشعر بجملة. ابن الأنباري
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وعبد الملك قاضي الجند صاحب "زين" مبنيا للمفعول، "قتل" رفعا على ما تقدم، "أولادهم" خفضا بالإضافة، "شركاؤهم" رفعا، وفي رفعه تخريجان أحدهما: وهو تخريج ابن عامر: أنه مرفوع بفعل مقدر تقديره: زينه شركاؤهم، فهو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: من زينه لهم؟ فقيل: شركاؤهم، وهذا كقوله تعالى: سيبويه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال أي: يسبحه رجال، وقول الآخر:
2095 - ليبك يزيد ضارع لخصومة . . . . . . . . . . . . . . . .
والثاني: - وهو تخريج قطرب- أن يكون "شركاؤهم" رفعا على الفاعلية بالمصدر، والتقدير: زين للمشركين أن قتل أولادهم شركاؤهم كما تقول: "حبب لي ركوب الفرس زيد" تقديره: حبب لي أن ركب الفرس زيد. والفرق بين التخريجين أن التخريج الأول يؤدي إلى أن تكون هذه القراءة في المعنى كالقراءة المنسوبة للعامة في كون الشركاء مزينين للقتل وليسوا قاتلين، والثاني: [أن] يكون الشركاء قاتلين، ولكن ذلك على سبيل المجاز; لأنهم لما زينوا قتلهم لآبائهم وكانوا سببا فيه نسب إليهم القتل مجازا. وقال "ويمكن أن يقع القتل منهم حقيقة" ، وفيه نظر لقوله: "زين" [ ص: 178 ] والإنسان إنما يزين له فعل نفسه كقوله تعالى: أبو البقاء: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا .
وقال غير "وقرأ أهل أبي عبيد: الشام كقراءة إلا أنهم خفضوا "الأولاد" أيضا، وتخريجها سهل: وهو أن تجعل "شركائهم" بدلا من "أولادهم" بمعنى أنهم يشركونهم في النسب والمال وغير ذلك. قال ابن عامر وقد رويت "شركايهم" بالياء في بعض المصاحف، ولكن لا يجوز إلا على أن يكون "شركاؤهم" من نعت الأولاد لأن أولادهم شركاؤهم في أموالهم. الزجاج:
وقال بعد أن ذكر قراءة العامة وهي "زين" مبنيا للفاعل، "شركاؤهم" مرفوعا على أنه فاعل وقراءة "زين" مبنيا للمفعول "شركاؤهم" رفعا على ما تقدم من أنه بإضمار فعل، وفي مصحف أهل الفراء: الشام شركايهم بالياء، فإن تكن مثبتة عن الأولين فينبغي أن تقرأ "زين" ويكون الشركاء هم الأولاد، لأنهم منهم في النسب والميراث، وإن كانوا يقرءون "زين" يعني بفتح الزاي فلست أعرف جهتها، إلا أن يكونوا فيها آخذين بلغة قوم يقولون: أتيتها عشايا، ويقولون في تثنية حمراء: حمرايان، فهذا وجه أن يكونوا أرادوا: زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركايهم، يعني بياء مضمومة لأن "شركاؤهم" فاعل كما مر في القراءة العامة. قال: "وإن شئت جعلت زين فعلا إذا فتحته لا يلبس، ثم تخفض الشركاء بإتباع الأولاد" . قال أبو شامة: "قلت: يعني تقدير الكلام زين بزين، فقد اتجه "شركائهم" بالجر أن يكون نعتا للأولاد سواء قرئ زين بالفتح أو الضم" .
وقرأت فرقة من أهل الشام - ورويت عن أيضا- "زين" بكسر [ ص: 179 ] الزاي بعدها ياء ساكنة على أنه فعل ماض مبني للمفعول على حد قيل وبيع. وقيل: مرفوع على ما لم يسم فاعله، وأولادهم بالنصب، وشركائهم بالخفض، والتوجيه واضح مما تقدم فهي [و] القراءة الأولى سواء، غاية ما في الباب أنه أخذ من زان الثلاثي وبني للمفعول فأعل بما قد عرفته في أول البقرة. ابن عامر
واللام من قوله "لكثير من المشركين" متعلقة بزين، وكذلك اللام في قوله "ليردوهم" . فإن قيل: كيف تعلق حرفي جر بلفظ واحد وبمعنى واحد بعامل واحد من غير بدلية ولا عطف؟ فالجواب: أن معناهما مختلف فإن الأولى للتعدية والثانية للعلية. وقال "إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فهي للصيرورة"، يعني أن الشيطان يفعل التزيين، وغرضه بذلك الإرداء، فالتعليل فيه واضح، وأما السدنة فإنهم لم يزينوا لهم ذلك وغرضهم إهلاكهم، ولكن لما كان مآل حالهم إلى الإرداء أتى باللام الدالة على العاقبة والمآل. الزمخشري:
قوله "وليلبسوا" عطف على "ليردوا" ، علل التزيين بشيئين: بالإرداء وبالتخليط وإدخال الشبهة عليهم في دينهم. والجمهور على "وليلبسوا" بكسر الباء من لبست عليه الأمر ألبسه بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع إذا أدخلت عليه فيه الشبهة وخلطته فيه. وقد تقدم بيانه في قوله وللبسنا عليهم ما يلبسون . وقرأ "وليلبسوا" بفتح الباء فقيل: هي لغة في المعنى المذكور تقول: لبست عليه الأمر بفتح الباء وكسرها ألبسه وألبسه، والصحيح أن لبس بالكسر بمعنى لبس الثياب، وبالفتح بمعنى [ ص: 180 ] الخلط، فالصحيح أنه استعار اللباس لشدة المخالطة الحاصلة بينهم وبين التخليط حتى كأنهم لبسوها كالثياب وصارت محيطة بهم. النخعي:
وقوله: "ما فعلوه" الضمير المرفوع للكثير والمنصوب للقتل للتصريح به ولأنه المسوق للحديث عنه. وقيل: المرفوع للشركاء والمنصوب للتزيين، وقيل: المنصوب للبس المفهوم من الفعل قبله وهو بعيد. وقال "لما فعل المشركون ما زين لهم من القتل، أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس، أو جميع ذلك إن جعلت الضمير جاريا مجرى اسم الإشارة" . الزمخشري:
وقوله فذرهم وما يفترون تقدم نظيره.