قوله: حتى يبلغ هذه غاية من حيث المعنى فإن المعنى: احفظوا ما له حتى يبلغ أشده ولو جعلناه غاية للفظ كان التقدير: لا تقربوه حتى يبلغ فاقربوه، وليس ذلك مرادا.
والأشد: اختلف النحويون فيه على خمسة أقوال فقيل: هو جمع لا واحد له، وهو قول فإنه قال: "الأشد واحدها "شد" في القياس ولم أسمع لها بواحد"، وقيل: هو مفرد لا جمع، نقل الفراء عن بعض أهل اللغة ذلك، وأنه بمنزلة الآنك، ونقل الشيخ عنه أن هذا الوجه [ ص: 221 ] مختاره في آخرين، ثم قال: "وليس بمختار لفقدان أفعل في المفردات وضعا" وقيل: هو جمع "شدة" ، وفعلة يجمع على أفعل كنعمة وأنعم، قاله ابن الأنباري أبو الهيثم وقال: "وكأن الهاء في الشدة والنعمة لم تكن في الحرف إذ كانت زائدة، وكان الأصل نعم وشد فجمعا على أفعل كما قالوا: رجل وأرجل وقدح وأقدح وضرس وأضرس. وقيل: هو جمع شد بضم الشين نقله عن بعض البصريين قال: كقولك: هو ود، وهم أود. وقيل: هو جمع شد بفتحها وهو محتمل. والمراد هنا ببلوغ الأشد بلوغ الحلم في قول الأكثر لأنه مظنة ذلك. وقيل: هو مبلغ الرجال من الحيلة والمعرفة. وقيل: هو أن يبلغ خمسة عشر إلى ثلاثين. وقيل: أن يبلغ ثلاثة وثلاثين. وقيل: أربعين. وقيل: ستين، وهذه لا تليق بهذه الآية، إنما تليق بقوله تعالى: ابن الأنباري حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة . والأشد: مشتق من الشدة وهي القوة والجلادة، وأنشد الفراء:
2120 - قد ساد وهو فتى حتى إذا بلغت أشده وعلا في الأمر واجتمعا
وقيل: أصله من الارتفاع، من شد النهار إذا ارتفع وعلا، قال عنترة:
2121 - عهدي به شد النهار كأنما خضب البنان ورأسه بالعظلم
والكيل والميزان: هما الآلة التي يكال بها ويوزن، وأصل الكيل المصدر ثم أطلق على الآلة. والميزان: مفعال من الوزن لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يستصبح به ويقاس، وأصل ميزان موزان ففعل به ما فعل بميقات وقد تقدم في البقرة. [ ص: 222 ] و "بالقسط" حال من فاعل "أوفوا" أي: أوفوهما مقسطين أي: ملتبسين بالقسط، ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي: أوفوا الكيل والميزان متلبسين بالقسط أي تامين. وقال "والكيل هنا مصدر في معنى المكيل، وكذلك الميزان. ويجوز أن يكون فيه حذف مضاف، تقديره: مكيل الكيل وموزون الميزان"، ولا حاجة إلى ما ادعاه من وقوع المصدر موقع اسم المفعول ولا من تقدير المضاف لأن المعنى صحيح بدونهما، وأيضا فميزان ليس مصدرا إلا أنه يعضد قوله ما قاله أبو البقاء: فإنه قال: والميزان أي: وزن الميزان لأن المراد إتمام الوزن لا إتمام الميزان، كما أنه قال "وأوفوا الكيل" ولم يقل المكيال فهو من باب حذف المضاف. انتهى. الواحدي
والظاهر عدم الاحتياج إلى ذلك وكأنه لم يعرف أن الكيل يطلق على نفس المكيال حتى يقول "ولم يقل المكيال" .
قوله: لا نكلف معترض بين هذه الأوامر، وقوله "ولو كان" أي: ولو كان المقول له والمقول عليه ذا قرابة. وقد تقدم نظير هذا التركيب مرارا. وقوله: "وبعهد الله" يجوز أن يكون من باب إضافة المصدر لفاعله أي: بما عاهدكم الله عليه، وأن يكون مضافا لمفعوله أي: بما عاهدتم الله عليه كقوله: صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، بما عاهد عليه الله وأن تكون الإضافة لمجرد البيان أضيف إلى الله من حيث إنه الآمر بحفظه، والمراد به العهد الواقع بين الآيتين.
وختمت هذه بالتذكر لأن الأربعة قبلها خفية تحتاج إلى إعمال فكر ونظر حتى يقف متعاطيها على العدل فناسبها التذكر، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء [ ص: 223 ] فإنها ظاهرة بحسب تعقلها وتفهمها فلذلك ختمت بالفعل. وتذكرون حيث وقع يقرؤه الأخوان في رواية وعاصم حفص بالتخفيف، والباقون بالتشديد والأصل: تتذكرون، فمن خفف حذف إحدى التاءين، وهل هي تاء المضارعة أو تاء التفعل؟ خلاف مشهور. ومن ثقل أدغم التاء في الذال.
قوله وأن هذا قرأ الأخوان بكسر "إن" على الاستئناف و "فاتبعوه" جملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذه الجملة الاستئنافية تفيد التعليل لقوله "فاتبعوه" ، ولذلك استشهد بها على ذلك كما تقدم، فعلى هذا يكون الكلام في الفاء في "فاتبعوه" كالكلام فيها في قراءة غيرهما وستأتي. الزمخشري
وقرأ "وأن" بفتح الهمزة وتخفيف النون، والباقون بالفتح أيضا والتشديد. فأما قراءة الجماعة ففيها أربعة أوجه، أحدها: وهو الظاهر أنها في محل نصب نسقا على ما حرم أي: أتل ما حرم وأتل أن هذا صراطي، والمراد بالمتكلم النبي صلى الله عليه وسلم لأن صراطه صراط لله عز وجل، وهذا قول ابن عامر قال بفتح "أن" مع وقوع "أتل" عليها يعني: أتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما. والثاني: أنها منصوبة المحل أيضا نسقا على "أن لا تشركوا" إذا قلنا بأن "أن" المصدرية وأنها وما بعدها بدل من "ما حرم" قاله الفراء الحوفي.
الثالث: أنها على إسقاط لام العلة أي: ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه كقوله تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا قال من فتح "أن" فقياس قول أبو علي: أنه حملها على "فاتبعوه" والتقدير: ولأن هذا صراطي [ ص: 224 ] مستقيما فاتبعوه كقوله: سيبويه وإن هذه أمتكم أمة واحدة . قال "ولأن هذه أمتكم" وقال في قوله تعالى: سيبويه: وأن المساجد لله : ولأن المساجد . قال بعضهم: وقد صرح بهذه اللام في نظير هذا التركيب كقوله تعالى: لإيلاف قريش إيلافهم . . . فليعبدوا ، والفاء على هذا كهي في قولك: زيدا فاضرب، وبزيد فامرر. وقد تقدم تقريره في البقرة. قال "قياس قول الفارسي: في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة كهي في "زيد فقائم" قلت: سيبويه لا يجوز زيادتها في مثل هذا الخبر، وإنما أراد سيبويه بنظيرها في مجرد الزيادة وإن لم يقل به، بل قال به غيره. الرابع: أنها في محل جر نسقا على الضمير المجرور في "به" أي: ذلكم وصاكم به وبأن هذا، وهو قول أبو علي أيضا. ورده الفراء بوجهين أحدهما: العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. والثاني: أنه يصير المعنى: وصاكم باستقامة الصراط وهذا فاسد. قلت: والوجهان مردودان، أما الأول فليس هذا من باب العطف على المضمر من غير إعادة الجار لأن الجار هنا في قوة المنطوق به، وإنما حذف لأنه يطرد حذفه مع أن وأن لطولهما بالصلة، ولذلك كان مذهب الجمهور أنها في محل جر بعد حذفه لأنه كالموجود، ويدل على ما قلته ما قال أبو البقاء قال: "حذفت الباء لطول الصلة وهي مرادة، ولا يكون في هذا عطف مظهر على مضمر لإرادتها". وأما الثاني: فالمعنى صحيح غير فاسد; لأن معنى توصيتنا باستقامة الصراط أن لا نتعاطى ما يخرجنا عن الصراط، فوصيتنا باستقامته مبالغة في اتباعه. [ ص: 225 ] وأما قراءة الحوفي فقالوا: "أن" فيها مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن أي: "وأنه" كقوله تعالى: ابن عامر أن الحمد لله وقوله:
2122 - . . . . . . . . . . . . . . . أن هالك كل من يحفى وينتعل
وحينئذ ففيها أربعة الأوجه المذكورة في المشددة. و "مستقيما" حال، العامل: إما "ها" التنبيه، وإما اسم الإشارة، وفي مصحف "وهذا صراطي" بدون "أن" وهي قراءة عبد الله وبها تتأيد قراءة الكسر المؤذنة بالاستئناف. الأعمش،
قوله: فتفرق منصوب بإضمار "أن" بعد الفاء في جواب النهي والجمهور على "فتفرق" بتاء خفيفة، والبزي بتشديدها، فمن خفف حذف إحدى التاءين، ومن شدد أدغم، وتقدم هذا آنفا في: " تتذكرون " . و "بكم" يجوز أن تكون مفعولا به في المعنى أي: فيفرقكم، ويجوز أن تكون حالا أي: وأنتم معها كقوله:
2123 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . تدوس بنا الجماجم والتريبا
وختم هذه بالتقوى وهي اتقاء النار لمناسبة الأمر باتباع الصراط، فإن من اتبعه وقى نفسه من النار.