أحدهما: أن تكون استئنافية استؤنفت للإخبار بأنهم يكفرون بما عدا التوراة فلا محل لها من الإعراب.
والثاني أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف، أي: وهم يكفرون، والجملة في محل نصب على الحال، والعامل فيها "قالوا" أي قالوا: نؤمن حال كونهم كافرين بكذا، ولا يجوز أن [ ص: 514 ] يكون العامل فيها "نؤمن"، قال : "إذ لو كان كذلك لكان لفظ الحال ونكفر أو ونحن نكفر"، يعني فكان يجب المطابقة، ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لما تقدم من أن المضارع المثبت لا يقترن بالواو وهو نظير قوله: أبو البقاء
613 - ... ... ... ... نجوت وأرهنهم مالكا
وحذف الفاعل من قوله: بما أنزل وأقيم المفعول مقامه للعلم به، إذ لا ينزل الكتب السماوية إلا الله، أو لتقدم ذكره في قوله: بما أنزل الله .
قوله: بما وراءه متعلق بيكفرون، وما موصولة، والظرف صلتها، فمتعلقه فعل ليس إلا.
والهاء في "وراءه" تعود على "ما" في قوله: نؤمن بما أنزل .
ووراء من الظروف المتوسطة التصرف، وهو ظرف مكان، والمشهور أنه بمعنى خلف وقد يكون بمعنى أمام، فهو من الأضداد، وفسره هنا بمعنى "سوى" التي بمعنى "غير"، وفسره الفراء أبو عبيدة بمعنى "بعد". وقتادة
وفي همزه قولان:
أحدهما: أنه أصل بنفسه وإليه ذهب مستدلا بثبوتها في التصغير في قولهم: وريئة. ابن جني
والثاني: أنها من ياء لقولهم: تواريت قاله ، وفيه نظر. أبو البقاء
ولا يجوز أن تكون الهمزة بدلا من واو لأن ما فاؤه واو لا تكون لامه واوا إلا ندورا نحو "واو" اسم حرف الهجاء، وحكمه حكم قبل [ ص: 515 ] وبعد في كونه إذا أضيف أعرب، وإذا قطع بني على الضم وأنشد على ذلك قول الشاعر: الأخفش
614 - إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء
وفي الحديث عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: وثبوت الهاء في مصغرها شاذ؛ لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تثبت الهاء في مصغره إلا في لفظتين شذتا وهما: وريئة وقديديمة: تصغير: وراء وقدام. "كنت خليلا من وراء وراء"،
قال ابن عصفور: "لأنهما لم يتصرفا فلو لم يؤنثا في التصغير لتوهم تذكيرهما".
قوله: وهو الحق مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب على الحال، والعامل فيها قوله: "ويكفرون" وصاحبها فاعل (يكفرون).
وأجاز أن يكون العامل الاستقرار الذي في قوله أبو البقاء بما وراءه أي: بالذي استقر وراءه وهو الحق.
قوله: مصدقا حال مؤكدة لأن قوله وهو الحق قد تضمن معناها، والحال المؤكدة: إما أن تؤكد عاملها نحو: " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " وإما أن تؤكد مضمون جملة.
فإن كان الثاني التزم إضمار عاملها وتأخيرها عن الجملة، ومثله ما أنشد : سيبويه
[ ص: 516 ]
615 - أنا ابن دارة معروفا بها نسبي وهل بدارة يا للناس من عار
والتقدير: وهو الحق أحقه مصدقا، وابن دارة أعرف معروفا، هذا تقدير كلام النحويين.
وأما فإنه قال: مصدقا حال مؤكدة، والعامل فيها ما في "الحق" من معنى الفعل إذ المعنى: وهو ثابت مصدقا، وصاحب الحال الضمير المستتر في "الحق" عند قوم، وعند آخرين صاحب الحال ضمير دل عليه الكلام، و"الحق" مصدر لا يتحمل الضمير على حسب تحمل اسم الفاعل له عندهم، فقوله "عند آخرين" هذا هو الذي قدمته أولا وهو الصواب. أبو البقاء
قوله: فلم تقتلون الفاء جواب شرط مقدر تقديره: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم قتلتم الأنبياء؟ وهذا تكذيب لهم؛ لأن الإيمان بالتوراة مناف لقتل أشرف خلقه.
و"لم" جار ومجرور، اللام حرف جر، وما استفهامية في محل جر أي: لأي شيء؟ ولكن حذفت ألفها فرقا بينها وبين "ما" الخبرية.
وقد تحمل الاستفهامية على الخبرية فتثبت ألفها، قال الشاعر:
616 - على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد
وهذا ينبغي أن يخص بالضرورة كما نص عليه بعضهم، يجيز ذلك، ويخرج عليه بعض آي القرآن، كما قد تحمل الخبرية على الاستفهامية في الحذف في قولهم: اصنع بم شئت، وهذا لمجرد الشبه اللفظي. والزمخشري
وإذا وقف على "ما" الاستفهامية المجرورة: فإن كانت مجرورة باسم وجب لحاق هاء السكت نحو: مجيء مه، وإن كانت مجرورة بحرف فالاختيار اللحاق.
والفرق أن الحرف يمتزج بما يدخل عليه فتقوى به [ ص: 517 ] الاستفهامية بخلاف الاسم المضاف إليها فإنه في نية الانفصال، وهذا الوقف إنما يجوز ابتلاء أو لقطع نفس، ولا جرم أن بعضهم منع الوقف على هذا النحو، قال: "لأنه إن وقف بغير هاء كان خطأ لنقصان الحرف، وإن وقف بهاء خالف السواد"، لكن البزي قد وقف بالهاء، ومثل ذلك لا يعد مخالفة للسواد، ألا ترى إلى إثباتهم بعض ياءات الزوائد.
والجار متعلق بقوله: "تقتلون"، ولكنه قدم عليه وجوبا لأن مجروره له صدر الكلام، والفاء وما بعدها من "تقتلون" في محل جزم، وتقتلون وإن كان بصيغة المضارع فهو في معنى الماضي لفهم المعنى، وأيضا فمعه قوله "من قبل"، وجاز إسناد القتل إليهم وإن لم يتعاطوه لأنهم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم جعلوا كأنهم فعلوا هم أنفسهم.
قوله: إن كنتم مؤمنين في "إن" قولان:
أحدهما: أنها شرطية وجوابها محذوف تقديره: إن كنتم مؤمنين فلم فعلتم ذلك، ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين، فحذف الشرط من الجملة الأولى وبقي جوابه وهو: فلم تقتلون، وحذف الجواب من الثانية وبقي شرطه، فقد حذف من كل واحدة ما أثبت في الأخرى، وقال : "جوابها متقدم، وهو قوله: فلم" وهذا إنما يتأتى على قول الكوفيين ابن عطية وأبي زيد.
والثاني: أن "إن" نافية بمعنى ما، أي: ما كنتم مؤمنين لمنافاة ما صدر منكم الإيمان.