قوله تعالى : " بقيت الله خير لكم " فيه ثمانية أقوال :
أحدها : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن ، خير من البخس ، قاله ابن عباس .
[ ص: 149 ] والثاني : رزق الله خير لكم ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال سفيان .
والثالث : طاعة الله خير لكم ، قاله مجاهد ، والزجاج .
والرابع : حظكم من الله خير لكم ، قاله قتادة .
والخامس : رحمة الله خير لكم ، قاله ابن زيد .
والسادس : وصية الله خير لكم ، قاله الربيع .
والسابع : ثواب الله في الآخرة خير لكم ، قاله مقاتل .
والثامن : مراقبة الله خير لكم ، ذكره الفراء .
وقرأ الحسن البصري : " تقية الله خير لكم " بالتاء .
قوله تعالى : " إن كنتم مؤمنين " شرط الإيمان في كونه خيرا لهم ، لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عز وجل ، عرفوا صحة ما يقول .
وفي قوله : " وما أنا عليكم بحفيظ " ثلاثة أقوال :
أحدها : ما أمرت بقتالكم وإكراهكم على الإيمان .
والثاني : ما أمرت بمراقبتكم عند كيلكم لئلا تبخسوا .
والثالث : ما أحفظكم من عذاب الله إن نالكم .
قوله تعالى : " أصلواتك تأمرك " وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وحفص : " أصلاتك " على التوحيد .
وفي المراد بصلواته ثلاثة أقوال : أحدها : دينه ، قاله عطاء . والثاني : قراءته ، قاله الأعمش . والثالث : أنها الصلوات المعروفة . وكان شعيب كثير الصلاة .
قوله تعالى : " أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " قال الفراء : معنى الآية : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟
[ ص: 150 ] وفي معنى الكلام على قراءة من قرأ بالنون قولان :
أحدهما : أن فعلهم في أموالهم هو البخس والتطفيف ، قاله ابن عباس ; فالمعنى : قد تراضينا فيما بيننا بذلك .
والثاني : أنهم كانوا يقطعون الدراهم والدنانير ، فنهاهم عن ذلك ، قاله ابن زيد . وقال القرظي : عذبوا في قطعهم الدراهم . قال ابن الأنباري : وقرأ الضحاك بن قيس الفهري " ما تشاء " بالتاء ، ونسق " أن تفعل " على " أن تترك " ، واستغنى عن الإضمار . قال سفيان الثوري : في معنى هذه القراءة أنه أمرهم بالزكاة فامتنعوا . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والضحاك ، وابن أبي عبلة : " أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء " بالتاء فيهما ; ومعنى هذه القراءة كمعنى قراءة الفهري .
وفي قوله : " إنك لأنت الحليم الرشيد " أربعة أقوال :
أحدها : أنهم قالوه استهزاء به ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والفراء .
والثاني : أنهم قالوا له : إنك لأنت السفيه الجاهل ، فكنى بهذا عن ذلك ، ذكره الزجاج .
والثالث : أنهم سبوه بأنه ليس بحليم ولا رشيد ، فأثنى الله عز وجل عليه فقال : بل إنك لأنت الحليم الرشيد ، لا كما قال لك الكافرون ، حكاه أبو سليمان الدمشقي عن أبي الحسن المصيصي .
والرابع : أنهم اعترفوا له بالحلم والرشد حقيقة ، وقالوا : أنت حليم رشيد ، فلم تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ حكاه الماوردي ، وذهب إلى نحوه ابن كيسان .
قوله تعالى : " إن كنت على بينة من ربي " قد تقدم تفسيره [هود :28 و63] .
[ ص: 151 ] وفي قوله : " ورزقني منه رزقا حسنا " ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الحلال ; قال ابن عباس : وكان شعيب كثير المال .
والثاني : النبوة . والثالث : العلم والمعرفة .
قال الزجاج : وجواب الشرط هاهنا متروك ، والمعنى : إن كنت على بينة من ربي ، أتبع الضلال ؟ فترك الجواب ، لعلم المخاطبين بالمعنى ، وقد مر مثل هذا .
قوله تعالى : " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " قال قتادة : لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه . وقال الزجاج : ما أقصد بخلافكم القصد إلى ارتكابه .
قوله تعالى : " إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " أي : ما أريد بما آمركم به إلا إصلاح أموركم بقدر طاقتي . وقدر طاقتي : إبلاغكم لا إجباركم .
قوله تعالى : " وما توفيقي إلا بالله " فتح تاء " توفيقي " أهل المدينة ، وابن عامر . ومعنى الكلام : ما إصابتي الحق في محاولة صلاحكم إلا بالله . " عليه توكلت " أي : فوضت أمري ، وذلك أنهم تواعدوه بقولهم : لنخرجنك يا شعيب [الأعراف :88] . " وإليه أنيب " : أي : أرجع .
قوله تعالى : " لا يجرمنكم شقاقي " حرك هذه الياء ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع . قال الزجاج : لا تكسبنكم عداوتكم إياي أن تعذبوا .
قوله تعالى : " وما قوم لوط منكم ببعيد " فيه قولان :
أحدهما : أنهم كانوا قريبا من مساكنهم .
والثاني : أنهم كانوا حديثي عهد بعذاب قوم لوط . قال الزجاج : كان إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات التي عرفوها . قال ابن الأنباري : إنما وحد بعيدا ، لأنه أزاله عن صفة القوم ، وجعله نعتا لمكان محذوف ، تقديره : وما قوم لوط منكم بمكان بعيد .
[ ص: 152 ] قوله تعالى : " إن ربي رحيم ودود " قد سبق معنى الرحيم .
فأما الودود : فقال ابن الأنباري : معناه : المحب لعباده ، من قولهم : وددت الرجل أوده ودا وودا وودا ، ويقال : وددت الرجل ودادا و ودادة و ودادة . وقال الخطابي : هو اسم مأخوذ من الود ; وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون فعولا في محل مفعول ، كما قيل : رجل هيوب ، بمعنى مهيب ، وفرس ركوب ، بمعنى مركوب ، فالله سبحانه مودود في قلوب أوليائه لما يتعرفونه من إحسانه إليهم .
والوجه الآخر : أن يكون بمعنى الواد ، أي : أنه يود عباده الصالحين ، بمعنى أنه يرضى عنهم بتقبل أعمالهم ; ويكون معناه : أن يوددهم إلى خلقه ، كقوله : سيجعل لهم الرحمن ودا [مريم :96] .
قوله تعالى : " ما نفقه كثيرا مما تقول " قال ابن الأنباري : معناه : ما نفقه صحة كثير مما تقول ، لأنهم كانوا يتدينون بغيره ، ويجوز أن يكونوا لاستثقالهم ذلك كأنهم لا يفقهونه .
قوله تعالى : " وإنا لنراك فينا ضعيفا " وفيه أربعة أقوال :
أحدها : ضريرا ; قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : كان أعمى . قال الزجاج : ويقال إن حمير تسمي المكفوف : ضعيفا .
والثاني : ذليلا ، قاله الحسن ، وأبو روق ، ومقاتل .
وزعم أبو روق أن الله لم يبعث نبيا أعمى ، ولا نبيا به زمانة .
والثالث : ضعيف البصر ، قاله سفيان .
والرابع : عاجزا عن التصرف في المكاسب ، ذكره ابن الأنباري .
[ ص: 153 ] قوله تعالى : " ولولا رهطك لرجمناك " قال الزجاج : لولا عشيرتك لقتلناك بالرجم ، والرجم من سيئ القتلات ، وكان رهطه من أهل ملتهم ، فلذلك أظهروا الميل إليهم والإكرام لهم . وذكر بعضهم أن الرجم هاهنا بمعنى الشتم والأذى .
قوله تعالى : " وما أنت علينا بعزيز " فيه قولان :
أحدهما : بكريم ، والثاني : بممتنع أن نقتلك .
قوله تعالى : " أرهطي أعز عليكم من الله " وأسكن ياء " رهطي " أهل الكوفة ، ويعقوب ، والمعنى : أتراعون رهطي في ، ولا تراعون الله في ؟
قوله تعالى : " واتخذتموه وراءكم " في هاء الكناية قولان :
أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى ، قاله الجمهور . قال الفراء : المعنى : رميتم بأمر الله وراء ظهوركم . قال الزجاج : والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمر : قد جعل فلان هذا الأمر بظهر ، قال الشاعر :
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها
والثاني: أنها كناية عما جاء به شعيب ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : " إن ربي بما تعملون محيط " أي : عالم بأعمالكم ، فهو يجازيكم بها . وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله : " سوف تعلمون " [الأنعام :135] .
فإن قال قائل : كيف قال هاهنا " سوف " وفي سورة أخرى " فسوف " ؟ [الأنعام :135]
فالجواب : أن كلا الأمرين حسن عند العرب ، إن أدخلوا الفاء ، دلوا على اتصال ما بعد الكلام بما قبله ، وإن أسقطوها ، بنوا الكلام الأول على أنه قد تم ، [ ص: 154 ] وما بعده مستأنف ، كقوله : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا [البقرة :67] ، والمعنى : فقالوا : أتتخذنا ، بالفاء ، فحذفت الفاء لتمام ما قبلها . قال امرؤ القيس :
فقالت يمين الله مالك حيلة وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
خرجت بها أمشي تجر وراءنا على إثرنا أذيال مرط مرحل
قال ابن الأنباري : أراد : فخرجت ، فأسقط الفاء لتمام ما قبلها . ويروى : فقمت بها أمشي .
قوله تعالى : " وارتقبوا إني معكم رقيب " قال ابن عباس : ارتقبوا العذاب ، فإني أرتقب الثواب .
قوله تعالى : " وأخذت الذين ظلموا الصيحة " قال المفسرون : صاح بهم جبريل فماتوا في أمكنتهم . قال محمد بن كعب : عذب أهل مدين بثلاثة أصناف من العذاب ، أخذتهم رجفة في ديارهم ، حتى خافوا أن تسقط عليهم ، فخرجوا منها فأصابهم حر شديد ، فبعث الله الظلة ، فتنادوا : هلم إلى الظل ; فدخلوا جميعا في الظلة ، فصيح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم . قال ابن عباس : لم تعذب أمتان قط بعذاب واحد ، إلا قوم شعيب وصالح ، فأما قوم صالح ، فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم ، نشأت لهم سحابة كهيئة الظلة فيها ريح بعد أن امتنعت الريح عنهم ، فأتوها يستظلون تحتها فأحرقتهم .
قوله تعالى : " كما بعدت ثمود " أي : كما هلكت ثمود .
[ ص: 155 ] قال ابن قتيبة : يقال : بعد يبعد : إذا كان بعده هلكة ; وبعد يبعد : إذا نأى .


