أحدها: أنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله . قال رضي الله عنه: لله عز وجل في كل كتاب سر ، وسر الله في القرآن أوائل السور ، وإلى هذا المعنى ذهب أبو بكر الصديق الشعبي وأبو صالح وابن زيد .
والثاني: أنها حروف من أسماء ، فإذا ألفت ضربا من التأليف كانت أسماء من أسماء الله عز وجل . قال هي أسماء مقطعة لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إذا دعي به أجاب . علي بن أبي طالب:
وسئل عن "الر" و"حم" و"نون" فقال: اسم الرحمن على الجهاء ، وإلى نحو هذا ذهب ابن عباس أبو العالية ، والربيع بن أنس .
والثالث: أنها حروف أقسم الله بها ، قاله ابن عباس ، قال وعكرمة . ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطعة كلها ، واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل: تعلمت "أ ب ت ث" وهو يريد سائر الحروف ، وكما يقول: قرأت الحمد ، يريد فاتحة الكتاب ، فيسميها بأول حرف منها ، وإنما أقسم بحروف المعجم لشرفها ولأنها مباني كتبه المنزلة ، وبها يذكر ويوحد . قال ابن قتيبة: وجواب القسم محذوف ، تقديره: وحروف المعجم لقد بين الله لكم السبيل ، وأنهجت لكم الدلالات بالكتاب المنزل ، وإنما [ ص: 21 ] حذف لعلم المخاطبين به ، ولأن في قوله: ابن الأنباري: ذلك الكتاب لا ريب فيه دليلا على الجواب .
والرابع: أنه أشار بما ذكر من الحروف إلى سائرها ، والمعنى أنه لما كانت الحروف أصولا للكلام المؤلف ، أخبر أن هذا القرآن إنما هو مؤلف من هذه الحروف ، قاله الفراء ، وقطرب .
فإن قيل: فقد علموا أنه حروف ، فما الفائدة في إعلامهم بهذا؟ .
فالجواب أنه نبه بذلك على إعجازه فكأنه قال: هو من هذه الحروف التي تؤلفون منها كلامكم ، فما بالكم تعجزون عن معارضته؟! فإذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمد عليه السلام .
والخامس: أنها أسماء للسور . روي عن وابنه ، زيد بن أسلم ، وأبي فاختة سعيد بن علاقة مولى أم هانئ .
والسادس: أنها من الرمز الذي تستعمله العرب في كلامها . يقول الرجل للرجل: هل تا؟ فيقول له بلى ، يريد هل تأتي؟ فيكتفي بحرف من حروفه . وأنشدوا:
قلنا لها قفي [لنا ] فقالت قاف [لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف ] .
أراد قالت: أقف . ومثله:
نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعا كلهم ألا فا .
يريد: ألا تركبون قالوا: بلى فاركبوا . ومثله:
بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
معناه: وإن شرا فشر ولا أريد الشر إلا أن تشاء . وإلى هذا القول ذهب الأخفش ، والزجاج ، وابن الأنباري .
وقال أبو روق عطية بن الحارث الهمداني: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في الصلوات [ ص: 22 ] كلها وكان المشركون يصفقون ويصفرون فنزلت هذه الحروف المقطعة ، فسمعوها فبقوا متحيرين . وقال غيره: إنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على سماعه ، لأن النفوس تتطلع إلى ما غاب عنها معناه . فإذا أقبلوا إليه خاطبهم بما يفهمون ، فصار ذلك كالوسيلة إلى الإبلاغ إلا أنه لا بد له من معنى يعلمه غيرهم ، أو يكون معلوما عند المخاطبين ، فهذا الكلام يعم جميع الحروف .
وقد خص المفسرون قوله "الم" بخمسة أقوال:
أحدها: أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله عز وجل ، وقد سبق بيانه .
والثاني: أن معناه: أنا الله أعلم . رواه عن أبو الضحى وبه قال ابن عباس ، ابن مسعود ، وسعيد بن جبير .
والثالث: أنه قسم . رواه عن أبو صالح ابن عباس ، وخالد الحذاء عن عكرمة .
والرابع: أنها حروف من أسماء . ثم فيها قولان . أحدهما: أن الألف من "الله" واللام من "جبريل" والميم من "محمد" قاله ابن عباس .
فإن قيل: إذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاء به ، فلم أخذت اللام من جبريل وهي آخر الاسم؟! .
فالجواب: أن مبتدأ القرآن من الله تعالى ، فدل على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه ، وجبريل انختم به التنزيل والإقراء ، فتنوول من اسمه نهاية حروفه ، و"محمد" مبتدأ في الإقراء ، فتنوول أول حرف فيه . والقول الثاني: أن الألف من "الله" تعالى ، واللام من "لطيف" والميم من "مجيد" قاله أبو العالية .
والخامس: أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله مجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، وابن جريج .
[ ص: 23 ]