ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين
قوله تعالى : " ورفع أبويه على العرش " في " أبويه " قولان قد تقدما في [ ص: 290 ] الآية التي قبلها . والعرش هاهنا : سرير المملكة ، أجلس أبويه عليه " وخروا له " يعني : أبويه وإخوته .
وفي هاء له قولان :
أحدهما : أنها ترجع إلى يوسف ، قاله الجمهور . قال عن أبو صالح : كان سجودهم كهيأة الركوع كما يفعل الأعاجم . وقال ابن عباس : أمرهم الله بالسجود لتأويل الرؤيا . قال الحسن : سجدوا له على جهة التحية ، لا على معنى العبادة ، وكان أهل ذلك الدهر يحيى بعضهم بعضا بالسجود والانحناء ، فحظره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فروى ابن الأنباري قال : " أنس بن مالك " . قال رجل : يا رسول الله ، أحدنا يلقى صديقه ، أينحني له ؟ قال لا
والثاني : أنها ترجع إلى الله ، فالمعنى : وخروا لله سجدا ، رواه ، عطاء عن والضحاك ، فيكون المعنى : أنهم سجدوا شكرا لله إذ جمع بينهم وبين ابن عباس يوسف .
قوله تعالى : " هذا تأويل رؤياي " أي : تصديق ما رأيت ، وكان قد رآهم في المنام يسجدون له ، فأراه الله ذلك في اليقظة .
واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها على سبعة أقوال :
أحدها : أربعون سنة ، قاله ، سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد بن الهاد ، . والثاني : اثنتان وعشرون سنة ، قاله ومقاتل عن أبو صالح . والثالث : ثمانون سنة ، قاله ابن عباس ، الحسن والفضيل بن عياض . والرابع : ست وثلاثون سنة ، [ ص: 291 ] قاله ، سعيد بن جبير ، وعكرمة . والخامس : خمس وثلاثون سنة ، قاله والسدي . والسادس : سبعون سنة ، قاله قتادة عبد الله بن شوذب . السابع : ثماني عشرة سنة ، قاله . ابن إسحاق
قوله تعالى : " وقد أحسن بي " أي : إلي . والبدو : البسط من الأرض . وقال : البدو : البادية ، وكانوا أهل عمود وماشية . ابن عباس
قوله تعالى : " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي " أي : أفسد بيننا . قال : يقال : نزغ بينهم ينزغ ، أي : أفسد وهيج ، وبعضهم يكسر زاي ينزغ . " أبو عبيدة إن ربي لطيف لما يشاء " أي : عالم بدقائق الأمور . وقد شرحنا معنى " اللطيف " في (الأنعام :102) .
فإن قيل : قد توالت على يوسف نعم خمسة ، فما اقتصاره على ذكر السجن ، وهلا ذكر الجب ، وهو أصعب ؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه ترك ذكر الجب تكرما ، لئلا يذكر إخوته صنيعهم ، وقد قال : " لا تثريب عليكم اليوم " .
والثاني : أنه خرج من الجب إلى الرق ، ومن السجن إلى الملك ، فكانت هذه النعمة أوفى .
والثالث : أن طول لبثه في السجن كان عقوبة ، له بخلاف الجب ، فشكر الله على عفوه .
قال العلماء بالسير : أقام يعقوب بعد قدومه مصر أربعا وعشرين سنة . وقال بعضهم : سبع عشرة سنة في أهنإ عيش ، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف [ ص: 292 ] أن يحمل إلى الشام حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ، ففعل به ذلك ، وكان عمره مائة وسبعا وأربعين سنة . ثم إن يوسف تاق إلى الجنة ، وعلم أن الدنيا لا تدوم فتمنى الموت ، قال ، ابن عباس : ولم يتمن الموت نبي قبله ، فقال : " وقتادة رب قد آتيتني من الملك " يعني : ملك مصر " وعلمتني من تأويل الأحاديث " وقد سبق تفسيرها [يوسف :6] .
وفي " من " قولان :
أحدهما : أنها صلة ، قاله . والثاني : أنها للتبعيض ، لأنه لم يؤت كل الملك ، ولا كل تأويل الأحاديث . مقاتل
قوله تعالى : " فاطر السماوات والأرض " قد شرحناه في (الأنعام :6) .
" أنت وليي " أي : الذي تلي أمري . " توفني مسلما " قال : يريد : لا تسلبني الإسلام حتى تتوفاني عليه . وكان ابن عباس ابن عقيل يقول : لم يتمن يوسف الموت ، وإنما سأل أن يموت على صفة ، والمعنى : توفني إذا توفيتني مسلما ، قال الشيخ : وهذا الصحيح .
قوله تعالى : " وألحقني بالصالحين " والمعنى : ألحقني بدرجاتهم ، وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل الجنة ، قاله . عكرمة
والثاني : آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، قاله ، قالوا : فلما احتضر الضحاك يوسف ، أوصى إلى يهوذا ، ومات ، فتشاح الناس في دفنه ، كل يحب أن يدفن في محلته رجاء البركة ، فاجتمعوا على دفنه في النيل ليمر الماء عليه ويصل إلى الجميع ، فدفنوه في صندوق من رخام ، فكان هنالك إلى أن حمله موسى حين خرج من مصر ودفنه بأرض كنعان . قال : مات الحسن يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة . وذكر أنه مات بعد مقاتل يعقوب بسنتين .