من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين [ ص: 495 ] طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون
قوله تعالى : " من كفر بالله من بعد إيمانه " قال : نزلت في مقاتل ، عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن أنس بن خطل ، وطعمة بن أبيرق ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وقيس بن الفاكه المخزومي .
فأما قوله تعالى : " إلا من أكره " فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال :
أحدها : أنه نزل في ، أخذه المشركون فعذبوه ، فأعطاهم ما أرادوا بلسانه ، رواه عمار بن ياسر عن مجاهد ، وبه قال ابن عباس . قتادة
والثاني : أنه لما نزل قوله : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . . . . إلى آخر الآيتين اللتين في سورة النساء [96، 97] كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى من كان بمكة ، فخرج ناس ممن أقر بالإسلام ، فاتبعهم المشركون فأدركوهم ، حتى أعطوا الفتنة ، فنزل " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " رواه عن عكرمة ، وبه قال ابن عباس . مجاهد
والثالث : أنه نزل في عياش بن أبي ربيعة ، كان قد هاجر فحلفت أمه ألا تستظل ولا تشبع من طعام حتى يرجع ، فرجع إليها ، فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون ، قاله . ابن سيرين
والرابع : أنه نزل في جبر غلام ابن الحضرمي ، كان يهوديا فأسلم فضربه سيده [ ص: 496 ] حتى رجع إلى اليهودية ، قاله . وأما قوله : " مقاتل ولكن من شرح بالكفر صدرا " فقال : هم النفر المسمون في أول الآية . مقاتل
فأما التفسير ، فاختلف النحاة في قوله : " من كفر " وقوله : " ولكن من شرح " فقال الكوفيون : جوابهما جميعا في قوله : " فعليهم غضب " فقال البصريون : بل قوله : " من كفر " مرفوع بالرد على " الذين لا يؤمنون " . قال : ويجوز أن يكون خبر " ابن الأنباري من كفر " محذوفا ، لوضوح معناه ، تقديره : من كفر بالله ، فالله عليه غضبان .
قوله تعالى : " وقلبه مطمئن بالإيمان " أي : ساكن إليه راض به . " ولكن من شرح بالكفر صدرا " قال : من أتاه بإيثار واختيار . وقال قتادة : من فتح له صدره بالقبول . وقال ابن قتيبة : المعنى : من تابعته نفسه ، وانبسط إلى ذلك ، يقال : ما ينشرح صدري بذلك ، أي : ما يطيب . وجاء قوله : " أبو عبيدة فعليهم غضب " على معنى الجميع ، لأن " من " تقع على الجميع .
فصل
. الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها
وفي الإكراه المبيح لذلك عن روايتان : أحمد
إحداهما : أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمر به .
والثانية : أن التخويف لا يكون إكراها حتى ينال بعذاب . وإذ ثبت جواز " التقية " فالأفضل ألا يفعل ، نص عليه ، في أسير خير بين القتل [ ص: 497 ] وشرب الخمر ، فقال : إن صبر على القتل فله الشرف ، وإن لم يصبر فله الرخصة ، فظاهر هذا ، الجواز . وروى عنه أحمد أنه سئل عن الأثرم فقال : إنما التقية في القول . فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك ، فأما إذا التقية في شرب الخمر ، لم يجز له الفعل ، ولم يصح إكراهه ، نص عليه أكره على الزنا . فإن أحمد ، لم يقع طلاقه ، نص عليه أكره على الطلاق ، وهو قول أحمد ، مالك ، وقال والشافعي أبو حنيفة : يقع .
قوله تعالى : " ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا " في المشار إليه بذلك قولان :
أحدهما : أنه الغضب والعذاب ، قاله . مقاتل
الثاني : أنه شرح الصدر للكفر . و " استحبوا " بمعنى : أحبوا الدنيا واختاروها على الآخرة .
قوله تعالى : " وأن الله " أي : وبأن الله لا يريد هدايتهم . وما بعد هذا قد سبق شرحه [البقرة :7، والنساء :155، والمائدة :67] إلى قوله : " وأولئك هم الغافلون " ففيه قولان :
أحدهما : الغافلون عما يراد بهم ، قاله . والثاني : عن الآخرة ، قاله ابن عباس . مقاتل
قوله تعالى : " لا جرم " قد شرحناها في (هود :22) .
قوله تعالى : " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا " اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :
أحدها : أنها نزلت فيمن كان يفتن بمكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه عن سعيد بن جبير . ابن عباس
والثاني : أن قوما من المسلمين خرجوا للهجرة ، فلحقهم المشركون فأعطوهم [ ص: 498 ] الفتنة فنزل فيهم ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله [العنكبوت :10] ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا ، وأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى من نجا ، وقتل من قتل ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه عن عكرمة . ابن عباس
والثالث : أنها نزلت في ، كان الشيطان قد أزله حتى لحق بالكفار ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح ، فاستجار له عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا مروي عن عثمان بن عفان ، ابن عباس ، والحسن ، وفيه بعد ، لأن المشار إليه وإن كان [قد] عاد إلى الإسلام ، فإن وعكرمة . الهجرة انقطعت بالفتح
والرابع : أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو ، وعبد الله بن أسيد الثقفي ، قاله . مقاتل
فأما قوله تعالى : " من بعد ما فتنوا " فقرأ الأكثرون : " فتنوا " بضم الفاء وكسر التاء ، على معنى : من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم . قال : فتنوا بمعنى : عذبوا . وقرأ ابن عباس عبد الله بن عامر : " فتنوا " بفتح الفاء والتاء ، على معنى : من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله ، يشير إلى من أسلم من المشركين . وقال أبو علي : من بعد ما فتنوا أنفسهم بإظهار ما أظهروا للتقية ، لأن الرخصة لم تكن نزلت بعد .
قوله تعالى : " ثم جاهدوا " أي : قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وصبروا " على الدين والجهاد . " إن ربك من بعدها " في المكني عنها أربعة أقوال :
أحدها : الفتنة ، وهو مذهب . والثاني : الفعلة التي فعلوها ، قاله مقاتل . [ ص: 499 ] والثالث : المجاهدة ، والمهاجرة ، والصبر . والرابع : المهاجرة . ذكرهما واللذين قبلهما الزجاج . ابن الأنباري
قوله تعالى : " يوم تأتي " قال : هو منصوب على أحد شيئين ، إما على معنى : إن ربك لغفور يوم تأتي ، وإما على معنى : اذكر يوم تأتي . ومعنى " الزجاج تجادل عن نفسها " أي : عنها . والمراد : أن كل إنسان يجادل عن نفسه . وقد روي عن أنه قال عمر بن الخطاب : يا لكعب الأحبار خوفنا ، فقال : إن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا وقع جاثيا على ركبتيه ، حتى إن كعب إبراهيم خليل الرحمن ليدلي بالخلة فيقول : " يا رب أنا خليلك إبراهيم ، لا أسألك إلا نفسي " ، وإن تصديق ذلك في كتاب الله " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " . وقد شرحنا معنى الجدال في (هود :32) .