لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور . فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور . وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ
قوله تعالى: ( لقد كان لسبإ في مساكنهم آية ) قرأ [ ص: 440 ] ابن كثير، ونافع، ، وأبو عمرو وابن عامر، عن وأبو بكر " في مساكنهم " . وقرأ عاصم: حمزة، وحفص عن " مسكنهم " بفتح الكاف من غير ألف . وقرأ عاصم: وخلف: " مسكنهم " بكسر الكاف، وهي لغة . الكسائي،
قال المفسرون: المراد بسبإ هاهنا: القبيلة التي هم من أولاد سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان; وقد ذكرنا في سورة (النمل: 22) الخلاف في هذا، وأن قوما يقولون: هو اسم بلد، وليس باسم رجل . وذكر في هذا المكان أن من قرأ: " لسبأ " بالفتح وترك الصرف، جعله اسما للقبيلة، ومن صرف وكسر ونون، جعله اسما للحي واسما لرجل; وكل جائز حسن . و الزجاج آية رفع، اسم " كان " ، و جنتان رفع على نوعين، أحدهما: أنه بدل من " آية " ، والثاني: على إضمار، كأنه لما قيل: " آية " ، قيل: الآية جنتان .
الإشارة إلى قصتهم
ذكر العلماء بالتفسير والسير أن بلقيس لما ملكت [قومها] جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم، فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصرها فنزلته، فلما كثر الشر بينهم وندموا، أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها، فأبت، فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك، فقالت: إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول، فقالوا: فإنا نطيعك، فجاءت إلى واديهم- وكانوا [ ص: 444 ] إذا مطروا أتاه السيل من مسيرة أيام- فأمرت به، فسد ما بين الجبلين بمسناة، وحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم، فكان الماء يخرج بينهم بالسوية، إلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذكره [النمل: 29- 44]، وبقوا بعدها على حالهم . وقيل: إنما بنوا ذلك البنيان لئلا يغشى السيل أموالهم فيهلكها، فكانوا يفتحون من أبواب السد ما يريدون، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه، وكانت لهم جنتان عن يمين واديهم وعن شماله، فأخصبت أرضهم، وكثرت فواكههم، وإن كانت المرأة لتمر بين الجنتين والمكتل على رأسها، فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تمس بيدها شيئا منه، ولم يكن [يرى] في بلدهم حية ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، ويمر الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القمل، فيموت القمل لطيب هوائها . وقيل لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة أي: هذه بلدة طيبة، أو بلدتكم بلدة طيبة، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي ورب غفور أي: والله رب غفور، وكانت ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا، فكذبوا الرسل، ولم يقروا بنعم الله، فذلك قوله: فأعرضوا أي: عن الحق، وكذبوا أنبياءهم فأرسلنا عليهم سيل العرم وفيه أربعة أقوال .
[ ص: 445 ] أحدها: أن العرم: الشديد، رواه عن علي بن أبي طالب وقال ابن عباس . العرم: السيل الذي لا يطاق . ابن الأعرابي:
والثاني: [أنه] اسم الوادي، رواه عن العوفي وبه قال ابن عباس، قتادة، والضحاك، ومقاتل .
والثالث : أنه المسناة، قاله ، مجاهد وأبو ميسرة، والفراء، . وقال وابن قتيبة العرم: جمع عرمة، وهي: السكر والمسناة . أبو عبيدة:
والرابع : أن العرم: الجرذ الذي نقب عليهم السكر، حكاه الزجاج .
وفي صفة إرسال هذا السيل عليهم قولان .
أحدهما: أن الله تعالى بعث على سكرهم دابة من الأرض فنقبت فيه نقبا، فسال ذلك الماء إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، رواه عن العوفي وقال ابن عباس . قتادة في آخرين: بعث الله عليهم جرذا يسمى الخلد- والخلد: الفأر الأعمى- فنقبه من أسفله، فأغرق الله [به] جناتهم، وخرب به أرضهم . والضحاك
والثاني: أنه أرسل عليهم ماء أحمر، أرسله في السد فنسفه وهدمه وحفر الوادي، ولم يكن الماء أحمر من السد، وإنما كان سيلا أرسل عليهم، قاله . مجاهد
قوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم يعني اللتين تطعمان الفواكه جنتين ذواتي أكل خمط قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، " أكل " بالتنوين . وقرأ والكسائي: " أكل " بالإضافة . وخفف الكاف أبو عمرو: ابن كثير وثقلها الباقون . أما الأكل، فهو الثمر . ونافع،
وفي المراد بـ الخمط ثلاثة أقوال . [ ص: 446 ] أحدها: أنه الأراك، قاله ابن عباس، والحسن، والجمهور; فعلى هذا، أكله: ثمره; ويسمى ثمر الأراك: البرير . ومجاهد،
والثاني: أنه كل شجرة ذات شوك، قاله أبو عبيدة .
والثالث : أنه كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله، قاله المبرد فعلى هذا القول، الخمط: اسم للمأكول، فيحسن على هذا قراءة من نون الأكل; وعلى ما قبله، هو اسم شجرة، والأكل ثمرها، فيحسن قراءة من أضاف . والزجاج .
فأما الأثل، ففيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الطرفاء، قاله والثاني: أنه السمر، حكاه ابن عباس . والثالث: أنه شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه . ابن جرير .
قوله تعالى: وشيء من سدر قليل فيه تقديم، وتقديره: وشيء قليل من سدر، وهو شجر النبق . والمعنى أنه كان الخمط والأثل في جنتيهم [ ص: 447 ] أكثر من السدر . قال بينا شجرهم من خير الشجر، إذ صيره الله من شر الشجر . قتادة:
قوله تعالى: ذلك جزيناهم أي: ذلك التبديل جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور .
فإن قيل: قد يجازى المؤمن والكافر، فما معنى هذا التخصيص؟ فعنه جوابان .
أحدهما: أن المؤمن يجزى ولا يجازى، فيقال في أفصح اللغة: جزى الله المؤمن، ولا يقال: جازاه، لأن " جازاه " بمعنى كافأه، فالكافر يجازى بسيئته مثلها، مكافأة له، والمؤمن يزاد في الثواب ويتفضل عليه، هذا قول الفراء .
والثاني: أن الكافر ليست له حسنة تكفر ذنوبه، فهو يجازى بجميع الذنوب، والمؤمن قد أحبطت حسناته سيئاته، هذا قول وقال الزجاج . الكافر يجازى ولا يغفر له، والمؤمن لا يناقش الحساب . طاووس:
قوله تعالى: وجعلنا بينهم هذا معطوف على قوله تعالى: لقد كان لسبإ ; والمعنى: كان من قصصهم أنا جعلنا بينهم وبين القرى التي [ ص: 448 ] باركنا فيها وهي: قرى الشام; وقد سبق بيان معنى البركة فيها [الأنبياء: 71] هذا قول الجمهور . وحكى أن الله تعالى لما أهلك جنتيهم قالوا للرسل: قد عرفنا نعمة الله علينا، فلئن رد إلينا ما كنا عليه لنعبدنه عبادة شديدة، فرد عليهم النعمة، وجعل لهم قرى ظاهرة فعادوا إلى الفساد وقالوا: باعد بين أسفارنا، فمزقوا . ابن السائب
قوله تعالى: قرى ظاهرة أي: متواصلة ينظر بعضها إلى بعض وقدرنا فيها السير فيه قولان .
أحدهما: أنهم كانوا يغدون فيقيلون في قرية، ويروحون فيبيتون في قرية، قاله الحسن، وقتادة .
والثاني: أنه جعل ما بين القرية والقرية مقدارا واحدا، قاله . ابن قتيبة
قوله تعالى: سيروا فيها والمعنى: وقلنا لهم: سيروا فيها ليالي وأياما أي: ليلا ونهارا آمنين من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سبع أو تعب . وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان، فبطروا النعمة وملوها كما مل بنو إسرائيل المن والسلوى فقالوا ربنا بعد بين أسفارنا قرأ ابن كثير، : " بعد " بتشديد العين وكسرها . وقرأ وأبو عمرو نافع، وعاصم، " باعد " بألف وكسر العين . وعن وحمزة: كالقراءتين . قال ابن عباس إنهم قالوا: لو كانت جناتنا أبعد مما هي، كان أجدر أن يشتهى جناها . قال ابن عباس: لما ذكرتهم الرسل نعم الله، أنكروا أن يكون ما هم فيه نعمة، [ ص: 449 ] وسألوا الله أن يباعد بين أسفارهم . وقرأ أبو سليمان الدمشقي: يعقوب: [ " ربنا " برفع الباء] " باعد " بفتح العين والدال، جعله فعلا ماضيا على طريق الإخبار للناس بما أنزله الله عز وجل بهم . وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن [السلمي]، ، وأبو رجاء وابن السميفع، : " بعد " برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف، على طريق الشكاية إلى الله عز وجل . وقرأ وابن أبي عبلة عاصم الجحدري، " بوعد " برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين . وأبو عمران الجوني:
قوله تعالى: وظلموا أنفسهم فيه قولان . أحدهما: بالكفر وتكذيب الرسل . والثاني: بقولهم " بعد بين أسفارنا " .
فجعلناهم أحاديث لمن بعدهم يتحدثون بما فعل بهم ومزقناهم كل ممزق أي: فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، لأن الله لما غرق مكانهم وأذهب جنتيهم تبددوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل في الفرقة بسبأ إن في ذلك أي: فيما فعل بهم لآيات أي: لعبرا لكل صبار عن معاصي الله شكور لنعمه،
قوله تعالى: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه " عليهم " بمعنى " فيهم " ، [ ص: 450 ] وصدقه في ظنه أنه ظن بهم أنهم يتبعونه إذ أغواهم، فوجدهم كذلك . وإنما قال: ولأضلنهم ولأمنينهم [النساء: 119] بالظن، لا بالعلم، فمن قرأ: " صدق " بتشديد الدال، فالمعنى: حقق ما ظنه فيهم بما فعل بهم; ومن قرأ بالتخفيف، فالمعنى: صدق عليهم في ظنه بهم .
وفي المشار إليهم قولان .
أحدهما: أنهم أهل سبإ . والثاني: سائر المطيعين لإبليس .
قوله تعالى: وما كان له عليهم من سلطان قد شرحناه في قوله: ليس لك عليهم سلطان [الحجر: 42 قال والله ما ضربهم بعصا ولا قهرهم على شيء إلا أنه دعاهم إلى الأماني والغرور . الحسن:
قوله تعالى: إلا لنعلم أي: ما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين . وقرأ " إلا ليعلم " بياء مرفوعة على ما لم يسم فاعله . وقرأ الزهري: " ليعلم " بفتح الياء . ابن يعمر:
وفي المراد بعلمه هاهنا ثلاثة أقوال قد شرحناه في أول (العنكبوت: 3) .
وربك على كل شيء من الشك والإيمان حفيظ ، وقال : والحفيظ بمعنى الحافظ . قال ابن قتيبة وهو فعيل بمعنى فاعل، كالقدير، والعليم، فهو يحفظ السماوات والأرض بما فيها لتبقى مدة بقائها، ويحفظ عباده من [ ص: 451 ] المهالك، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نياتهم، ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذنوب، ويحرسهم من مكايد الشيطان . الخطابي: