وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم . ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين . إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون . ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين . أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا [ ص: 375 ] ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون .
قوله تعالى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا . . . الآية، في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها: أن الكفار قالوا: لو كان دين محمد خيرا ما سبقنا إليه اليهود، فنزلت هذه الآية، قاله مسروق .
والثاني: أن امرأة ضعيفة البصر أسلمت، وكان الأشراف من قريش يهزؤون بها ويقولون: والله لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا هذه إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الزناد .
والثالث: أن أسلم واستجاب به قومه إلى الإسلام، فقالت أبا ذر الغفاري قريش: لو كان خيرا ما سبقونا إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو المتوكل .
والرابع: أنه لما اهتدت مزينة وجهينة وأسلمت، قالت أسد وغطفان: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء الشاء، يعنون مزينة وجهينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب .
والخامس: أن اليهود قالوا: لو كان دين محمد خيرا ما سبقتمونا إليه، لأنه لا علم لكم بذلك، ولو كان حقا لدخلنا فيه، ذكره وقال: [هو قول من يقول: إن الآية نزلت أبو سليمان الدمشقي بالمدينة; ومن قال: هي مكية، قال]: هو قول المشركين . فقد خرج في "الذين كفروا" قولان . أحدهما: أنهم المشركون . والثاني: اليهود .
وقوله: لو كان خيرا أي: لو كان دين محمد خيرا ما سبقونا إليه .
[ ص: 376 ] فمن قال: هم المشركون، قال: أرادوا: إنا أعز وأفضل; ومن قال: هم اليهود، [قال]: أرادوا: لأنا أعلم .
قوله تعالى: وإذ لم يهتدوا به أي: بالقرآن فسيقولون هذا إفك قديم أي: كذب متقدم، يعنون أساطير الأولين .
ومن قبله كتاب موسى أي: من قبل القرآن التوراة . وفي الكلام محذوف، تقديره: فلم يهتدوا، لأن المشركين لم يهتدوا بالتوارة .
إماما قال : هو منصوب على الحال الزجاج ورحمة عطف عليه وهذا كتاب مصدق المعنى: مصدق للتوراة لسانا عربيا منصوب على الحال; المعنى: مصدق لما بين يديه عربيا; وذكر "لسانا" توكيدا، كما تقول: جاءني زيد رجلا صالحا، تريد: جاءني زيد صالحا .
قوله تعالى: لينذر الذين ظلموا قرأ عاصم، ، وأبو عمرو وحمزة، "لينذر" بالياء . وقرأ والكسائي: نافع، وابن عامر، ويعقوب: "لتنذر" بالتاء . وعن كالقراءتين . و "الذين ظلموا" المشركين ابن كثير وبشرى أي: وهو بشرى للمحسنين وهم الموحدون يبشرهم بالجنة .
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [فصلت: 30] إلى قوله: بوالديه حسنا وقرأ عاصم، وحمزة، "إحسانا" بألف . والكسائي:
حملته أمه كرها قرأ ابن كثير، ونافع، : "كرها" بفتح الكاف; وقرأ الباقون: بضمها . قال وأبو عمرو والنحويون يستحبون الضم هاهنا، ويكرهون الفتح، للعلة التي بيناها عند قوله: الفراء: وهو كره لكم [البقرة: 216] . قال : والمعنى: حملته على مشقة الزجاج ووضعته على مشقة . [ ص: 377 ] وفصاله أي: فطامه . وقرأ يعقوب: "وفصله" بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف ثلاثون شهرا . قال "ووضعته كرها" يريد به شدة الطلق . واعلم أن هذه المدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع; فأما الأشد، ففيه أقوال قد تقدمت; واختار ابن عباس: أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، لأنه وقت كمال الإنسان في بدنه وقوته واستحكام شأنه وتمييزه . وقال الزجاج : أشد الرجل غير أشد اليتيم، لأن أشد الرجل: الاكتهال والحنكة وأن يشتد رأيه وعقله، وذلك ثلاثون سنة، ويقال: ثمان وثلاثون سنة، وأشد الغلام: أن يشتد خلقه ويتناهى نباته . وقد ذكرنا بيان الأشد في [الأنعام: 153] وفي [يوسف: 22] وهذا تحقيقه . واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال . ابن قتيبة
أحدها: [أنها] نزلت في رضي الله عنه، وذلك أبي بكر الصديق أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال [له]: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، [ ص: 378 ] فقال: هذا والله نبي، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره، فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ابن أربعين سنة ابن ثمان وثلاثين سنة- صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، وأبو بكر رواه عن عطاء وبه قال الأكثرون; قالوا: فلما بلغ ابن عباس، أبو بكر أربعين سنة، دعا الله عز وجل بما ذكره في هذه الآية، فأجابه الله، فأسلم والداه وأولاده ذكورهم وإناثهم، ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة .
والقول الثاني: أنها نزلت في وقد شرحنا قصته في سورة [العنكبوت: 8]، وهذا مذهب سعد بن أبي وقاص، الضحاك، والسدي .
والثالث: أنها نزلت على العموم، قاله وقد شرحنا في سورة [النمل: 19] معنى قوله: الحسن . أوزعني .
قوله تعالى: وأن أعمل صالحا ترضاه قال أجابه الله -يعني ابن عباس: فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في الله عز وجل، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه، واستجاب له في ذريته فآمنوا، أبا بكر- إني تبت إليك أي: رجعت إلى كل ما تحب .
[ ص: 379 ] قوله تعالى: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم قرأ ابن كثير، ونافع، ، وأبو عمرو وابن عامر، عن وأبو بكر "يتقبل" "ويتجاوز" بالياء المضمومة فيهما . وقرأ عاصم: حمزة، والكسائي، وحفص عن وخلف: "نتقبل" "ونتجاوز" بالنون فيهما . وقرأ عاصم، أبو المتوكل، وأبو رجاء، "يتقبل" "ويتجاوز" بياء مفتوحة فيهما، يعني أهل هذا القول . والأحسن بمعنى الحسن . وأبو عمران الجوني:
في أصحاب الجنة أي: في جملة من يتجاوز عنهم، وهم أصحاب الجنة . وقيل: "في" بمعنى "مع" .
وعد الصدق قال : هو منصوب، لأنه مصدر مؤكد لما قبله، لأن قوله: الزجاج "أولئك الذين نتقبل عنهم" بمعنى الوعد، لأنه وعدهم القبول بقوله: "وعد الصدق"، يؤكد ذلك قوله: الذي كانوا يوعدون أي: على ألسنة الرسل في الدنيا .