وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره
قوله تعالى: لا أقسم اتفقوا على أن المعنى "أقسم" واختلفوا في "لا" فجعلها بعضهم زائدة، كقوله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب [الحديد: 29] وجعلها بعضهم ردا على منكري البعث . ويدل عليه أنه "أقسم" على كون البعث . قال زيدت "لا" على نية الرد على المكذبين، كما تقول: لا والله ما ذاك، ولو حذفت جاز، ولكنه أبلغ في الرد . وقرأ ابن قتيبة: إلا ابن كثير ابن فليح "لأقسم" بغير ألف بعد اللام، فجعلت لاما دخلت على "أقسم"، وهي قراءة ابن عباس، وأبي عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، [ ص: 416 ] وعكرمة، وابن محيصن . قال من قرأ "لأقسم" فاللام لام القسم والتوكيد . وهذه القراءة بعيدة في العربية، لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون، تقول: لأضربن زيدا . ولا يجوز: لأضرب زيدا . الزجاج:
قوله تعالى: ولا أقسم بالنفس اللوامة قال أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية . وقال الحسن: حكمها حكم الأولى . قتادة:
وفي "النفس اللوامة" ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها المذمومة، قاله فعلى هذا: هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم . ابن عباس .
والثاني: أنها النفس المؤمنة، قاله قال: لا يرى المؤمن إلا يلوم نفسه على كل حال . الحسن .
والثالث: أنها جميع النفوس . قال ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قال: هلا زدت . وإن كانت عملت سوءا، قال ليتني لم أفعل . الفراء:
قوله تعالى: أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه المراد بالإنسان ها هنا: الكافر . وقال يريد ابن عباس: أبا جهل . وقال مقاتل: عدي بن ربيعة، وذلك أنه قال: أيجمع الله هذه العظام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: "نعم" فاستهزأ [ ص: 417 ] منه، فنزلت هذه الآية . قال وجواب القسم محذوف، كأنه: لتبعثن، لتحاسبن، فدل قوله تعالى: ابن الأنباري: أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه على الجواب، فحذف .
قوله تعالى: بلى وقف حسن . ثم يبتدأ "قادرين" على معنى: بلى نجمعها قادرين . ويصلح نصب "قادرين" على التكرير: بلى فليحسبنا قادرين "على أن نسوي بنانه" وفيه قولان .
أحدهما: أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، وحافر الحمار، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة والخياطة، هذا قول الجمهور .
[ ص: 418 ] والثاني: نقدر على أن نسوي بنانه كما كانت، وإن صغرت عظامها، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع كبارها أقدر، هذا قول ابن قتيبة، وقد بينا معنى البنان في [الأنفال: 12] والزجاج .
قوله تعالى: بل يريد الإنسان ليفجر أمامه فيه قولان .
أحدهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، قاله ابن عباس .
والثاني: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، ويقول: سوف أتوب، قاله فعلى هذا: يكون المراد بالإنسان: المسلم . وعلى الأول: الكافر . سعيد بن جبير .
قوله تعالى: يسأل أيان يوم القيامة أي: متى هو؟ تكذيبا به، وهذا هو الكافر "فإذا برق البصر" قرأ أهل المدينة، عن وأبان "برق" بفتح الراء، والباقون بكسرها . قال عاصم الفراء: العرب تقول: برق البصر يبرق، وبرق يبرق: إذا رأى هولا يفزع منه . و"برق" أكثر وأجود . قال الشاعر:
فنفسك فانع ولا تنعني وداو الكلوم ولا تبرق
[ ص: 419 ] بالفتح . يقول: لا تفزع من هول الجراح التي بك . قال المفسرون: يشخص بصر الكافر يوم القيامة، فلا يطرف لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا . وقال برق البصر عند الموت . مجاهد:
قوله تعالى: وخسف القمر قال كسف وخسف بمعنى واحد، أي: ذهب ضوؤه . أبو عبيدة:
قوله تعالى: وجمع الشمس والقمر إنما قال "جمع" لتذكير القمر، هذا قول وقال أبي عبيدة . إنما لم يقل: جمعت، لأن المعنى: جمع بينهما . وفي معنى الآية قولان . الفراء:
أحدهما: جمع بين ذاتيهما . وقال جمعا كالبعيرين القرينين . وقال ابن مسعود: يجمعان ثم يقذفان في البحر . وقيل: يقذفان في النار . وقيل يجمعان، فيطلعان من المغرب . عطاء بن يسار:
والثاني: جمع بينهما في ذهاب نورهما، قاله الفراء، والزجاج .
قوله تعالى: يقول الإنسان يعني: المكذب بيوم القيامة "أين المفر" قرأ الجمهور بفتح الميم، والفاء، وقرأ ابن عباس، ومعاوية، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والضحاك، وابن يعمر، [ ص: 420 ] بكسر الفاء . قال وابن أبي عبلة: فمن فتح، فالمعنى: أين الفرار؟ ومن كسر، فالمعنى: أين مكان الفرار؟ تقول: جلست مجلسا بالفتح، يعني: جلوسا . فإذا قلت: مجلسا بالكسر، فأنت تريد المكان . الزجاج:
قوله تعالى: كلا لا وزر قال لا ملجأ . وأصل الوزر: الجبل الذي يمتنع فيه "إلى ربك يومئذ المستقر" أي: المنتهى والمرجع . ابن قتيبة:
"ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" فيه ستة أقوال .
أحدها: بما قدم قبل موته، وما سن من شيء فعمل به بعد موته، قاله ابن مسعود، وابن عباس .
والثاني: ينبأ بأول عمله وآخره . قاله مجاهد .
والثالث: بما قدم من الشر، وأخر من الخير، قاله عكرمة .
والرابع: بما قدم من فرض، وأخر من فرض، قاله الضحاك .
والخامس: بما قدم من معصية، وأخر من طاعة .
والسادس: بما قدم من أمواله، وما خلف للورثة، قاله زيد بن أسلم .
قوله تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة قال المعنى: بل على الإنسان من نفسه بصيرة، أي: رقباء يشهدون عليه بعمله، وهي: الجوارح . قال الفراء: فلما كانت جوارحه منه، أقامها مقامه . وقال ابن قتيبة: جاءت الهاء في "بصيرة" في صفة الذكر، كما جاءت في رجل "راوية"، و"طاغية"، وعلامة . أبو عبيدة:
قوله تعالى: ولو ألقى معاذيره في المعاذير قولان .
أحدهما: أنه جمع عذر، فالمعنى: لو اعتذر، وجادل عن نفسه، فعليه من يكذب عذره، وهي: الجوارح، وهذا قول الأكثرين .
[ ص: 421 ] والثاني: أن المعاذير جمع معذار، وهو: الستر . والمعاذير: الستور . فالمعنى: ولو أرخى ستوره، هذا قول الضحاك، والسدي، فيخرج في معنى "ألقى" قولان . والزجاج .
أحدهما: قال، ومنه "فألقوا إليهم القول" [النحل: 36]، وهذا على القول الأول .
والثاني: أرخى، وهذا على القول الثاني .