مكية كلها في قول الجمهور
وحكي عن ابن عباس، وقتادة، أن فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى: ومقاتل وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [المرسلات: 48] .
بسم الله الرحمن الرحيم
والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالت صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن [ ص: 444 ] لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون
قوله تعالى: والمرسلات عرفا فيه أربعة أقوال .
أحدها: أنها الرياح يتبع بعضها بعضا، رواه أبو العبيدين عن ابن مسعود، والعوفي عن وبه قال ابن عباس، مجاهد، وقتادة .
والثاني: أنها الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، رواه عن مسروق وبه قال ابن مسعود، أبو هريرة، وقال ومقاتل . هي الملائكة . الفراء:
فأما قوله تعالى: عرفا فيقال: أرسلت بالمعروف، ويقال: تتابعت كعرف الفرس . والعرب تقول: يركب الناس إلى فلان عرفا واحدا: إذا توجهوا إليه فأكثروا . قال يريد أن الملائكة متتابعة بما ترسل به . وأصله من عرف الفرس، لأنه سطر مستو بعضه في إثر بعض، فاستعير للقوم يتبع بعضهم بعضا . ابن قتيبة:
[ ص: 445 ] والثالث: أنهم الرسل بما يعرفون به من المعجزات، وهذا معنى قول أبي صالح، ذكره الزجاج .
والرابع: الملائكة والريح، قاله قال: ومعنى "عرفا": يتبع بعضها بعضا . يقال: جاؤوني عرفا . وفي "العاصفات" قولان . أبو عبيدة .
أحدهما: أنها الرياح الشديدة الهبوب، قاله الجمهور .
والثاني: الملائكة، قاله مسلم بن صبيح . قال تعصف بروح الكافر . وفي "الناشرات" خمسة أقوال . الزجاج:
أحدها: أنها الرياح تنشر السحاب، قاله والجمهور . ابن مسعود،
والثاني: الملائكة تنشر الكتب، قاله أبو صالح .
والثالث: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، قاله الضحاك .
والرابع: البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح، قاله الربيع .
والخامس: المطر ينشر النبات، حكاه الماوردي .
[ ص: 446 ] وفي "الفارقات" أربعة أقوال .
أحدها: الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، قاله الأكثرون .
والثاني: آي القرآن فرقت بين الحلال والحرام، قاله الحسن، وقتادة، وابن كيسان .
والثالث: الريح تفرق بين السحاب فتبدده، قاله مجاهد .
والرابع: الرسل، حكاه الزجاج .
"فالملقيات ذكرا" قولان .
أحدهما: الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء، وهذا مذهب ابن عباس، والجمهور . وقتادة،
والثاني: الرسل يلقون ما أنزل عليهم إلى الأمم، قاله قطرب .
قوله تعالى: عذرا أو نذرا قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، عن وأبو بكر "عذرا" خفيفا "أو نذرا" مثقلا . وقرأ عاصم أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص، "عذرا أو نذرا" خفيفتان . قال وخلف وهو مصدر، مثقلا كان أو مخففا . ونصبه على معنى: أرسلت بما أرسلت به إعذارا من الله وإنذارا . وقال الفراء: المعنى: فالملقيات عذرا أو نذرا . ويجوز أن يكون المعنى: فالملقيات ذكرا للإعذار والإنذار . وهذه المذكورات مجرورات بالقسم . وجواب القسم الزجاج: "إنما توعدون لواقع" قال المفسرون: [ ص: 447 ] إن ما توعدون به من أمر الساعة، والبعث، والجزاء لواقع، أي: لكائن . ثم ذكر متى يقع فقال تعالى: فإذا النجوم طمست أي: محي نورها "وإذا السماء فرجت" أي: شقت "وإذا الجبال نسفت" قال أي: ذهب بها كلها بسرعة . يقال: انتسفت الشيء: إذا أخذته بسرعة . الزجاج:
قوله تعالى: وإذا الرسل أقتت قرأ "وقتت" بواو مع تشديد القاف . ووافقه أبو عمرو ، إلا أنه خفف القاف . وقرأ الباقون: "أقتت" بألف مكان الواو مع تشديد القاف . قال أبو جعفر وقتت وأقتت بمعنى واحد . فمن قرأ "أقتت" بالهمز، فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو . وكل واو انضمت، وكانت ضمتها لازمة، جاز أن تبدل منها همزة . وقال الزجاج: الواو إذا كانت أول حرف، وضمت، همزت تقول: صلى القوم أحدانا . وهذه أجوه حسان . ومعنى "أقتت": جمعت لوقتها يوم القيامة . وقال الفراء: جمعت لوقت، وهو يوم القيامة . وقال ابن قتيبة: جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمة . الزجاج:
قوله تعالى: لأي يوم أجلت أي: أخرت . وضرب الأجل لجمعهم، يعجب العباد من هول ذلك اليوم . ثم بينه فقال تعالى: ليوم الفصل وهو يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق . ثم عظم ذلك اليوم بقوله: "وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين" بالبعث . ثم أخبر الله تعالى عما فعل بالأمم المكذبة، فقال: "ألم نهلك الأولين" يعني بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم "ثم نتبعهم الآخرين" والقراء على رفع العين في "نتبعهم"، وقد قرأ قوم منهم أبو حيوة بإسكان العين . قال "نتبعهم" مرفوعة . ويدل على ذلك قراءة الفراء: "وسنتبعهم الآخرين: . ولو جزمت [ ص: 448 ] على معنى: ألم نقدر على إهلاك الأولين وإتباعهم الآخرين كان وجها جيدا . وقال ابن مسعود الجزم عطف على "نهلك"، ويكون المعنى: لمن أهلك أولا وآخرا . والرفع على معنى: ثم نتبع الأول الآخر من كل مجرم . وقال الزجاج: مقاتل: ثم نتبعهم الآخرين: يعني"كفار مكة حين كذبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقال الأولون: قوم ابن جرير: نوح، وعاد، وثمود، والآخرون: قوم إبراهيم، ولوط، ومدين .
قوله تعالى: كذلك أي: مثل ذلك "نفعل بالمجرمين" يعني: المكذبين .
فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله تعالى: " ويل يومئذ للمكذبين " ؟
فالجواب: أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى، لأنه كلما ذكر شيئا قال: "ويل يومئذ للمكذبين" بهذا .
قوله تعالى: ألم نخلقكم قرأ عن قالون بإظهار القاف . وقرأ الباقون بإدغامها . نافع
قوله تعالى: من ماء مهين أي: ضعيف "فجعلناه في قرار مكين" يعني: الرحم "إلى قدر معلوم" وهو مدة الحمل "فقدرنا" قرأ أهل المدينة، "فقدرنا" بالتشديد . وقرأ الباقون: بالتخفيف . وهل بينهما فرق؟ . والكسائي
فيه قولان .
أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد . قال تقول الفراء: العرب: قدر عليه، وقدر عليه . وقد احتج من قرأ بالتخفيف فقال: لو كانت مشددة لقال: فنعم المقدرون، فأجاب فقال: قد تجمع الفراء العرب بين اللغتين،كقوله تعالى: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [الطارق: 17] . قال الشاعر:
[ ص: 449 ]
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
يقول: ما أنكرت إلا ما يكون في الناس .
والثاني: أن المخففة من القدرة والملك، والمشددة من التقدير والقضاء . ثم بين لهم صنعه ليعتبروا فيوحدوه . فقال تعالى: ألم نجعل الأرض كفاتا قال اللغويون: الكفت في اللغة: الضم . والمعنى: أنها تضم أهلها أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها . قال يقال: اكفت هذا إليك، أي: ضمه . وكانوا يسمون ابن قتيبة: بقيع الغرقد: كفتة، لأنه مقبرة يضم الموتى .
وفي قوله تعالى: أحياء وأمواتا قولان .
أحدهما: أن المعنى: تكفتهم أحياء وأمواتا، قاله الجمهور . قال وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم، كأنك قلت: ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات، فإذا نونت نصبت كما يقرأ الفراء: "أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما" [البلد: 14] . وقال انتصب على الحال . الأخفش:
والقول الثاني: أن المعنى: ألم نجعل الأرض أحياء بالنبات والعمارة، وأمواتا بالخراب واليبس، هذا قول مجاهد، وأبي عبيدة .
قوله تعالى: وجعلنا فيها رواسي قد سبق بيان "شامخات" أي: عاليات "وأسقيناكم" قد سبق معنى "أسقينا"، [الحجر: 22: والجن: 16] ومعنى "الفرات" [الفرقان: 53، وفاطر: 12] والمعنى: إن هذه الأشياء أعجب من البعث . ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة: "انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون" في الدنيا، وهو النار "انطلقوا إلى ظل" قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر . وقرأ ، [ ص: 450 ] أبي بن كعب وأبي عمران، ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي . قال "والظل" هاهنا: ظل من دخان نار جهنم سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيقال لهم: كونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه، أو حيث شاء من الظل، ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار ابن قتيبة: "لا ظليل" أي: يظلكم من حر هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس . قال تكون شعبة فوق الإنسان، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله، فتحيط به . وقال مجاهد: الشعب الثلاث: هي الضريع، والزقوم، والغسلين . فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار . الضحاك:
قوله تعالى: ولا يغني من اللهب أي: لا يدفع عنكم لهب جهنم . ثم وصف النار فقال تعالى: إنها ترمي بشرر ، وهو جمع شررة ، وهو ما يتطاير من النار متفرقا "كالقصر" قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنية . وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن وهو قول الجمهور . وقرأ ابن عباس، ابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، "كالقصر" بفتح الصاد . وفي أفراد وأبو الجوزاء من حديث البخاري قال: كنا نرفع الخشب [بقصر] ثلاثة أذرع أو أقل [فنرفعه] للشتاء، فنسميه: القصر . قال ابن عباس من فتح الصاد أراد: أصول النخل المقطوعة . المقلوعة قال ابن قتيبة: أراد أعناق الإبل . وقرأ الزجاج: سعد ابن أبي وقاص، وعائشة، وعكرمة، وأبو مجلز، ، وأبو المتوكل "كالقصر" بفتح القاف، وكسر الصاد . وقرأ وابن يعمر ابن مسعود، وأبو هريرة، "كالقصر" برفع القاف والصاد جميعا . وقرأ والنخعي أبو الدرداء، وسعيد بن [ ص: 451 ] جبير "كالقصر" بكسر القاف، وفتح الصاد، وقرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ "كالقصر" بضم القاف وإسكان الصاد .
قوله تعالى: كأنه جمالت قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، عن وأبو بكر "جمالات" بألف، وكسر الجيم . وقرأ عاصم حمزة، والكسائي، وحفص عن "جمالة" على التوحيد . وقرأ عاصم رويس عن يعقوب "جمالات" بضم الجيم . وقرأ أبو رزين ، وحميد، وأبو حيوة "جمالة" برفع الجيم على التوحيد . قال من قرأ "جمالات" بالكسر، فهو جمع جمال، كما تقول: بيوت، وبيوتات، وهو جمع الجمع، فالمعنى: كأن الشرارات كالجمالات . ومن قرأ "جمالات" بالضم، فهو جمع "جمالة" ومن قرأ جمالة" فهو جمع جمل وجمالة، كما قيل: حجر، وحجارة . وذكر، وذكارة . وقرئت "جمالة" على ما فسرناه في جمالات بالضم . و"الصفر" هاهنا: السود . يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصفرة: إبل صفر . وقال الزجاج: الصفر: سود الإبل لا يرى الأسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة، فلذلك سمت الفراء: العرب سود الإبل: صفرا، كما سموا الظباء: أدما لما يعلوها من الظلمة في بياضها .
قوله تعالى: هذا يوم لا ينطقون قال المفسرون: هذا في بعض مواقف القيامة . قال تكلموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، فتكلمت أيديهم، وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون بحجة تنفعهم . وقرأ عكرمة: أبو رجاء، والقاسم ابن محمد، والأعمش، "هذا يوم لا ينطقون" بنصب الميم . وابن أبي عبلة
قوله تعالى: هذا يوم الفصل أي: بين أهل الجنة وأهل النار "جمعناكم" يعني مكذبي هذه الأمة "والأولين" من المكذبين الذين كذبوا أنبياءهم [ ص: 452 ] "فإن كان لكم كيد فكيدون" أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب أي: إن قدرتم على حيلة، فاحتالوا لأنفسكم . ثم ذكر ما للمؤمنين، فقال تعالى: "إن المتقين في ظلال" يعني: ظلال الشجر، وظلال أكنان القصور "وعيون" الماء، وهذا قد تقدم بيانه، إلى قوله تعالى كلوا أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون في الدنيا بطاعة الله . ثم قال لكفار مكة: "كلوا وتمتعوا قليلا" في الدنيا إلى منتهى آجالكم "إنكم مجرمون" أي: مشركون بالله .
قوله تعالى: وإذا قيل لهم اركعوا فيه قولان .
أحدهما: أنه حين يدعون إلى السجود يوم القيامة، رواه عن العوفي ابن عباس .
والثاني: أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم: اركعوا، أي: صلوا "لا يركعون" أي: لا يصلون . وإلى نحو هذا ذهب في آخرين، وهو الأصح . وقيل: نزلت في مجاهد ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقالوا: لا نحني، فإنها مسبة علينا، فقال: لا خير في دين ليس فيه ركوع .
قوله تعالى: فبأي حديث بعده يؤمنون أي: إن لم يصدقوا بهذا القرآن، فبأي كتاب بعده يصدقون، ولا كتاب بعده: !
تم - بعون الله تعالى وتوفيقه - الجزء الثامن من كتاب "زاد المسير في علم التفسير للإمام ويليه الجزء التاسع ، وأوله تفسير سورة ابن الجوزي،