قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب ، كانوا بعد إسلامهم يتقون السبت ولحم الجمل ، وأشياء يتقيها أهل الكتاب . رواه عن أبو صالح والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي ابن عباس . محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أمروا بالدخول في الإسلام . روي عن أيضا ، وبه قال ابن عباس والثالث: أنها نزلت في المسلمين ، يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها ، قاله الضحاك . مجاهد وقتادة .
وفي "السلم " ثلاث لغات: كسر السين ، وتسكين اللام ، وبها قرأ أبو عمرو ، في "البقرة" وفتحا السين في "الأنفال" وسورة "محمد" وفتح السين مع تسكين اللام . وبها قرأ وابن عامر ابن كثير ، ونافع ، في المواضع الثلاثة ، وفتح السين واللام . وبها قرأ والكسائي في "البقرة" خاصة . الأعمش
[ ص: 225 ] وفي معنى " السلم " قولان . أحدهما: أنه الإسلام ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن قتيبة ، في آخرين . والثاني: أنها الطاعة ، روي عن والزجاج أيضا ، وهو قول ابن عباس أبي العالية ، والربيع . وقال و"كافة" بمعنى الجميع ، وهو في اشتقاق اللغة: ما يكف الشيء في آخره ، من ذلك: كفه القميص ، وكل مستطيل فحرفه كفة: بضم الكاف . ويقال: في كل مستدير: كفه بكسر الكاف ، نحو: كفة الميزان . ويقال: إنما سميت كفة الثوب ، لأنها تمنعه أن ينتشر ، وأصل الكف: المنع ، وقيل لطرف اليد: كف ، لأنها تكف بها عن سائر البدن ، ورجل مكفوف: قد كف بصره أن ينظر . واختلفوا: هل قوله: "كافة" يرجع إلى السلم ، أو إلى الداخلين فيه؟ على قولين . أحدهما: أنه راجع إلى السلم ، فتقديره: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام . وهذا يخرج على القول الأول الذي ذكرناه في نزول الآية . والثاني: أنه يرجع إلى الداخلين فيه ، فتقديره: ادخلوا كلكم في الإسلام ، وبهذا يخرج على القول الثاني . وعلى القول الثالث يحتمل قوله: "كافة" ثلاثة أقوال . أحدها: أن يكون أمرا للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم ، والثاني أن يكون أمرا للمؤمنين بالدخول في جميع شرائعه . والثالث: أن يكون أمرا لهم بالثبات عليه ، كقوله تعالى: الزجاج: يا أيها الذين آمنوا آمنوا [ النساء: 136 ] . و: "خطوات الشيطان" المعاصي . وقد سبق شرحها . و"البينات" الدلالات الواضحات . وقال هي الإسلام والقرآن . و"ينظرون" بمعنى: ينتظرون . ابن جريج:
قوله تعالى: (إلا أن يأتيهم الله) كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا . وقد ذكر عن القاضي أبو يعلى أنه قال: المراد به: قدرته وأمره . قال: وقد بينه في قوله تعالى: أحمد أو يأتي أمر ربك [ الأنعام: 158 ] .
[ ص: 226 ] قوله تعالى: في ظلل من الغمام أي: بظلل . والظلل: جمع ظلة . و"الغمام": السحاب الذي لا ماء فيه . قال في قطع من السحاب . ومتى يكون مجيء الملائكة؟ فيه قولان . أحدهما: أنه يوم القيامة ، وهو قول الجمهور . والثاني: أنه عند الموت ، قاله الضحاك: وقرأ قتادة . بخفض "الملائكة" و"قضي الأمر": فرغ منه . الحسن (وإلى الله ترجع الأمور) أي: تصير . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، "ترجع" بضم التاء . وقرأ وعاصم ابن عامر ، وحمزة ، بفتحها . فإن قيل: فكأن الأمور كانت إلى غيره؟ فعنه أربعة أجوبة . أحدها: أن المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب ، قاله والكسائي والثاني: أنه لما عبد قوم غيره ، ونسبوا أفعاله إلى سواه ، ثم انكشف الغطاء يوم القيامة; ردوا إليه ما أضافوه إلى غيره . والثالث: أن الزجاج . العرب تقول: قد رجع علي من فلان مكروه: إذا صار إليه منه مكروه ، وإن لم يكن سبق ، قال الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مرة إلي فقد عادت لهن ذنوب
ذكرهما ومما يشبه هذا قول ابن الأنباري لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
أراد: يصير رمادا ، لا أنه كان رمادا . وقال أمية بن أبي الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
أي: صار . والرابع: أنه لما كانت الأمور إليه قبل الخلق ، ثم أوجدهم فملكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم . فإن قيل: قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله: (أن يأتيهم الله) فما [ ص: 227 ] الحكمة في أنه لم يقل: وإليه ترجع الأمور؟ فالجواب: أن إعادة اسمه أفخم وأعظم ، والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه ، وأنشدوا:
لا أرى الموت يسبق الموت شيئا نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم ، ذكره الزجاج .