قوله تعالى: (منه آيات محكمات) المحكم: المتقن المبين ، وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال . أحدها: أنه الناسخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، في آخرين . والثاني: أنه الحلال والحرام ، روي عن والسدي ابن عباس ، والثالث: أنه ما علم العلماء تأويله ، روي عن ومجاهد . والرابع: أنه الذي لم ينسخ ، قاله جابر بن عبد الله . والخامس: أنه ما لم تتكرر ألفاظه ، قاله الضحاك . ابن زيد . والسادس: أنه ما استقل بنفسه ، ولم يحتج إلى بيان ، ذكره [ ص: 351 ] عن الإمام القاضي أبو يعلى وقال أحمد . الشافعي ، هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والسابع: أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة . والثامن: أنه الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحلال والحرام ، ذكر هذا والذي قبله وابن الأنباري: وأم الكتاب أصله . قاله القاضي أبو يعلى . ابن عباس ، فكأنه قال: هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الأحكام ، ومجمع الحلال والحرام . وفي المتشابه سبعة أقوال . أحدها: أنه المنسوخ ، قاله وابن جبير ، ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، في آخرين . والثاني: أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل ، كقيام الساعة ، روي عن والسدي والثالث: أنه الحروف المقطعة كقوله "ألم" ونحو ذلك ، قاله جابر بن عبد الله . والرابع: أنه ما اشتبهت معانيه ، قاله ابن عباس . والخامس: أنه ما تكررت ألفاظه ، قاله مجاهد . ابن زيد . والسادس: أنه ما احتمل من التأويل وجوها . وقال المحكم ما لا يحتمل التأويلات ، ولا يخفى على مميز ، والمتشابه: الذي تعتوره تأويلات . والسابع: أنه القصص ، والأمثال ، ذكره ابن الأنباري: فإن قيل: فما القاضي أبو يعلى . والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة . أحدها: أنه لما كان كلام فائدة إنزال المتشابه ، العرب على ضربين . أحدهما: الموجز الذي لا يخفى على سامعه ، ولا يحتمل غير ظاهره . والثاني: المجاز ، والكنايات ، والإشارات ، والتلويحات ، وهذا الضرب الثاني: هو المستحلى عند العرب ، والبديع في كلامهم ، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين ، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله ، فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم ، ولو نزل كله محكما واضحا ، لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا . ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية ، أو تعريض أو تشبيه ، كان أفصح وأغرب .
[ ص: 352 ] قال امرؤ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل
فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه ، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد ، وزاد في بلاغته . وقال امرؤ القيس أيضا:
رمتني بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل فلم أنتصر
وقال أيضا:
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل
فجعل لليل صلبا وصدرا على جهة التشبيه ، نحسن بذلك شعره . وقال غيره:
من كميت أجادها طابخاها لم تمت كل موتها في القدور
أراد بالطابخين: الليل والنهار على جهة التشبيه . وقال آخر:
تبكي هاشما في كل فجر كما تبكي على الفنن الحمام
عجبت لها أنى يكون غناؤها فصيحا ولم تفتح بمنطقها فما
فجعل لها غناء وفما على جهة الاستعارة . والجواب الثاني: أن الله تعالى أنزله مختبرا به عباده ، ليقف المؤمن عنده ، ويرده إلى عالمه ، فيعظم بذلك ثوابه ، ويرتاب به المنافق ، فيداخله الزيغ ، فيستحق بذلك العقوبة ، كما ابتلاهم بنهر طالوت . والثالث: أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردهم المتشابه إلى المحكم ، فيطول بذلك فكرهم ، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم ، فيثابون على تعبهم ، كما يثابون على سائر عباداتهم ، ولو جعل القرآن كله محكما لاستوى فيه العالم والجاهل ، ولم يفضل العالم على غيره ، ولماتت الخواطر ، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم . وقد قال الحكماء: عيب الغنى: أنه يورث البلادة ، وفضل الفقر: أنه يبعث على الحيلة ، لأنه إذا احتاج احتال . والرابع: أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة ، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلمون ، ويمرنوهم على انتزاع الجواب ، لأنهم إذا قدروا على الغامض ، كانوا على الواضح أقدر ، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء ، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو ، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة ، وابن الأنباري .
قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ في الزيغ قولان . أحدهما: أنه الشك ، قاله مجاهد ، والثاني: أنه الميل ، قاله والسدي . وعن أبو مالك . كالقولين . وقيل: هو الميل عن الهدى . وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال . أحدها: أنهم ابن عباس الخوارج ، قاله والثاني: المنافقون ، قاله الحسن . والثالث: وفد ابن جريج . نجران من النصارى ، قاله والرابع: اليهود ، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجمل ، قاله الربيع . ابن السائب .
قوله تعالى: فيتبعون ما تشابه منه قال يحيلون المحكم على المتشابه ، [ ص: 354 ] والمتشابه على المحكم ، ويلبسون . و قال ابن عباس: يقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ، ثم نسخت؟! وفي المراد بالفتنة هاهنا ، ثلاثة أقوال . أحدها: أنها الكفر ، قاله السدي: السدي ، والربيع ، ومقاتل ، والثاني: الشبهات ، قاله وابن قتيبة . والثالث: إفساد ذات البين ، قاله مجاهد . وفي التأويل وجهان . أحدهما: أنه التفسير . والثاني: العاقبة المنتظرة . والراسخ: الثابت ، يقال: رسخ يرسخ رسوخا . وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان . أحدهما: أنهم لا يعلمونه ، وأنهم مستأنفون ، وقد روى الزجاج . عن طاووس أنه قرأ (ويقول الراسخون في العلم آمنا به) وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن عباس ، وعروة ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز والفراء ، وأبو عبيدة ، وثعلب ، والجمهور . قال وابن الأنباري ، في قراءة ابن الأنباري: (إن تأويله ، إلا عند الله والراسخون في العلم) وقي قراءة عبد الله أبي ، (ويقول الراسخون) وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء ، استأثر بعلمها ، كقوله تعالى: وابن عباس قل إنما علمها عند الله [ الأعراف: 187 ] . و قوله تعالى: وقرونا بين ذلك كثيرا [ الفرقان: 38 ] فأنزل الله تعالى المجمل ، ليؤمن به المؤمن ، فيسعد ، ويكفر به الكافر ، فيشقى . والثاني: أنهم يعلمون ، فهم داخلون في الاستثناء . وقد روى عن مجاهد أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله ، وهذا قول ابن عباس مجاهد ، والربيع ، واختاره ابن قتيبة ، قال وأبو سليمان الدمشقي . الذي روى هذا القول عن ابن الأنباري: مجاهد ولا تصح روايته التفسير عن ابن أبي نجيح ، مجاهد .