قوله تعالى: لا تحلوا شعائر الله في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إلام تدعو؟ فقال: "إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" فقال: إن لي أمراء خلفي أرجع إليهم أشاورهم ، ثم خرج ، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر ، وما الرجل بمسلم" ، فمر شريح بسرح لأهل المدينة ، فاستاقه ، فلما كان عام الحديبية ، خرج شريح إلى مكة معتمرا ، ومعه تجارة ، فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال السدي: اسمه الحطم ابن هند البكري . قال: ولما ساق السرح جعل يرتجز:
[ ص: 271 ]
قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم
خدلج الساقين ممسوح القدم
والثاني: أن ناسا من المشركين جاؤوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلين بعمرة ، فقال المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم ، فنزل قوله (ولا آمين البيت [ ص: 272 ] الحرام) . قال ابن قتيبة: وشعائر الله: ما جعله الله علما لطاعته .
وفي المراد بها هاهنا سبعة أقوال .
أحدها: أنها مناسك الحج ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ، ولا يطوفون بينهما ، فقال الله تعالى: لا تستحلوا ترك ذلك .
والثاني: أنها ما حرم الله تعالى في حال الإحرام ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث: دين الله كله ، قاله الحسن . والرابع: حدود الله ، قاله عكرمة ، وعطاء . والخامس: حرم الله ، قاله السدي .
والسادس: الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام ، قاله أبو عبيدة ، والزجاج .
والسابع: أنها أعلام الحرم ، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة ، ذكره الماوردي ، والقاضي أبو يعلى .
[ ص: 273 ] قوله تعالى: ولا الشهر الحرام قال ابن عباس : لا تحلوا القتال فيه .
وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه ذو القعدة ، قاله عكرمة ، وقتادة .
والثاني: أن المراد به الأشهر الحرم . قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل سنة فيقول: ألا إني قد أحللت كذا ، وحرمت كذا .
والثالث: أنه رجب ، ذكره ابن جرير الطبري . و "الهدي": كل ما أهدي إلى بيت الله تعالى من شيء . وفي القلائد قولان .
أحدهما: أنها المقلدات من الهدي ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني: أنها ما كان المشركون يقلدون به إبلهم وأنفسهم في الجاهلية ، ليأمنوا به عدوهم ، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إلا في الأشهر الحرم ، فمن لقوه . مقلدا نفسه ، أو بعيره ، أو مشعرا بدنه ، أو سائقا هديا لم يتعرض له . قال ابن عباس : كان من أراد أن يسافر في غير الأشهر الحرم ، قلد بعيره من الشعر والوبر ، فيأمن حيث ذهب . وروى مالك بن مغول عن عطاء قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم ، فيأمنون به إذا خرجوا من الحرم ، فنزلت هذه الآية . وقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من [ ص: 274 ] السمر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة شعر ، فلم يعرض له أحد .
وقال الفراء: كان أهل مكة يقلدون بلحاء الشجر ، وسائر العرب يقلدون بالوبر والشعر . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها: لا تستحلوا المقلدات من الهدي . والثاني: لا تستحلوا أصحاب القلائد . والثالث: أن هذا نهي للمؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم ، فيتقلدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم ، رواه عبد الملك عن عطاء ، وبه قال مطرف ، والربيع بن أنس .
قوله تعالى: ولا آمين البيت الحرام "الآم": القاصد ، و "البيت الحرام": الكعبة ، و "الفضل": الربح في التجارة ، والرضوان من الله يطلبونه في حجهم على زعمهم . ومثله قوله: وانظر إلى إلهك الذي [طه: 97] وقيل: ابتغاء الفضل عام ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة .
قوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا لفظه لفظ الأمر ، ومعناه: الإباحة ، نظيره فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [الجمعة: 10] وهو يدل على إحرام متقدم .
[ ص: 275 ] قوله تعالى: ولا يجرمنكم وروى الوليد عن يعقوب "يجرمنكم" بسكون النون ، وتخفيفها . قال ابن عباس : لا يحملنكم ، وقال غيره: لا يدخلنكم في الجرم ، كما تقول: آثمته ، أي: أدخلته في الإثم . وقال ابن قتيبة: لا يكسبنكم يقال: فلان جارم أهله ، أي: كاسبهم ، وكذلك جريمتهم . وقال الهذلي ووصف عقابا:
جريمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا
والناهض: فرخها ، يقول: هي تكسب له ، وتأتيه بقوته . و "الشنآن": البغض ، يقال: شنئته أشنؤه: إذا أبغضته . وقال ابن الأنباري: "الشنآن": البغض ، و "الشنآن" بتسكين النون: البغيض . واختلف القراء في نون الشنآن ، فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي: بتحريكها ، وأسكنها ابن عامر ، وروى حفص عن عاصم تحريكها ، وأبو بكر عنه تسكينها ، وكذلك اختلف عن نافع .
[ ص: 276 ] قال أبو علي: "الشنآن" ، قد جاء وصفا ، وقد جاء اسما ، فمن حرك ، فلأنه مصدر ، والمصدر يكثر على فعلان ، نحو النزوان ، ومن سكن ، قال: هو مصدر ، وقد جاء المصدر على فعلان ، تقول: لويته دينه ليانا ، فالمعنى في القراءتين واحد ، وإن اختلف اللفظان . واختلفوا في قوله: (أن صدوكم) فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالكسر . وقرأ الباقون بالفتح ، فمن فتح جعل الصد ماضيا ، فيكون المعنى من أجل أن صدوكم ، ومن كسرها ، جعلها للشرط ، فيكون الصد مترقبا . قال أبو الحسن الأخفش: وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر ، كقوله: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل [يوسف: 77] وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت ، وأنشد أبو علي الفارسي:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا
[فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء ، والجزاء إنما يكون بالمستقبل ، فيكون المعنى: إن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة] قال ابن جرير: وقراءة من فتح الألف أبين ، لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية ، وقد كان الصد تقدم .
فعلى هذا في معنى الكلام قولان .
أحدهما: ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن [ ص: 277 ] تعتدوا فيه ، فتقاتلوهم ، وتأخذوا أموالهم إذا دخلتموه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني: لا يحملنكم بغض أهل مكة ، وصدهم إياكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين ، على ما سبق في نزول الآية .
قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى قال الفراء: ليعن بعضكم بعضا . قال ابن عباس : البر ما أمرت به ، و "التقوى": ترك ما نهيت عنه . فأما "الإثم": فالمعاصي . و "العدوان": التعدي في حدود الله ، قاله عطاء .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين .
أحدهما: أنها محكمة ، روي عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شيء ، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين: قالوا: ولا يجوز استحلال الشعائر ، ولا الهدي [ ص: 278 ] قبل أوان ذبحه . واختلفوا في "القلائد" فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر ، وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلد من شجر الحرم ، فقيل لهم: لا تستحلوا أخذ القلائد من الحرم ، ولا تصدوا القاصدين إلى البيت .
والثاني: أنها منسوخة ، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال .
أحدها: أن جميعها منسوخ ، وهو قول الشعبي .
والثاني: أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلدون هداياهم ، ويظهرون شعائر الحج من الإحرام والتلبية ، فنهي المسلمون بهذه الآية عن التعرض لهم ، ثم نسخ ذلك بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة: 5] وهذا قول الأكثرين .
والثالث: أن الذي نسخ قوله: ولا آمين البيت الحرام نسخه قوله: فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [التوبة: 38] روي عن ابن عباس ، وقتادة .
والرابع: أن المنسوخ منها: تحريم الشهر الحرام ، وآمون البيت الحرام: إذا كانوا مشركين . وهدي المشركين: إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان ، قاله أبو سليمان الدمشقي .


