وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون
قوله تعالى: وحسبوا ألا تكون فتنة قرأ ابن كثير ، ونافع ، [ ص: 400 ] وعاصم ، "تكون" بالنصب . وقرأ وابن عامر: أبو عمرو ، وحمزة ، "تكون" بالرفع ، ولم يختلفوا في رفع "فتنة" . قال والكسائي: من رفع جعل "أن" مخففة من الثقيلة ، وأضمر معها "الهاء" ، وجعل "حسبوا" بمعنى: أيقنوا ، لأن "أن" للتأكيد ، والتأكيد لا يجوز إلا مع اليقين . والتقدير: أنه لا تكون فتنة . ومن نصب جعل "أن" هي الناصبة للفعل ، وجعل "حسبوا" بمعنى: ظنوا . ولو كان قبل "أن" فعل لا يصلح للشك ، لم يجز أن تكون إلا مخففة من الثقيلة ، ولم يجز نصب الفعل بها ، كقوله: مكي بن أبي طالب: أفلا يرون ألا يرجع إليهم [طه: 89] و علم أن سيكون [المزمل: 20] وقال أبو علي: الأفعال ثلاثة: فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره ، نحو العلم والتيقن ، وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار ، وفعل يجذب إلى هذا مرة ، وإلى هذا أخرى ، فما كان معناه العلم ، وقعت بعده "أن" الثقيلة ، لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره ، كقوله: ويعلمون أن الله هو الحق المبين [النور: 25] ألم يعلم بأن الله يرى [العلق: 14] وما كان على غير وجه الثبات والاستقرار نحو: أطمع وأخاف وأرجو ، وقعت بعده "أن" الخفيفة ، كقوله: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله [البقرة: 229] تخافون أن يتخطفكم الناس [الأنفال 26] فخشينا أن يرهقهما [الكهف: 80] أطمع أن يغفر لي [الشعراء: 82] وما كان مترددا بين الحالين مثل حسبت وظننت ، فإنه يجعل تارة بمنزلة العلم ، وتارة بمنزلة أرجو وأطمع وكلتا القراءتين في وحسبوا ألا تكون فتنة قد جاء بها التنزيل . فمثل مذهب من نصب أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم [الجاثية: 21] أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا [العنكبوت: 4] أحسب الناس أن يتركوا [العنكبوت: 2] ومثل مذهب من رفع أيحسبون أنما نمدهم [المؤمنون 55] أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم [الزخرف: 80] . [ ص: 401 ] قال : ظنوا أن الله لا يعذبهم ، ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء ، وتكذيبهم الرسل . ابن عباس
قوله تعالى: فعموا وصموا قال : هذا مثل تأويله: أنهم لم يعملوا بما سمعوا ، ورأوا من الآيات ، فصاروا كالعمي الصم . الزجاج
قوله تعالى: ثم تاب الله عليهم فيه قولان .
أحدهما: رفع عنهم البلاء ، قاله . وقال غيره: هو ظفرهم بالأعداء ، وذلك مذكور في قوله: مقاتل ثم رددنا لكم الكرة عليهم [الإسراء: 6]
والثاني: أن معنى "تاب عليهم": أرسل إليهم محمدا يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إن آمنوا وصدقوا ، قاله . وفي قوله: الزجاج ثم عموا وصموا قولان .
أحدهما: لم يتوبوا بعد رفع البلاء ، قاله . مقاتل
والثاني: لم يؤمنوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله . الزجاج
قوله تعالى: كثير منهم أي: عمي وصم كثير منهم ، كما تقول: جاءني قومك أكثرهم . قال هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث كذبوه بغيا وحسدا ، وقدروا أن هذا الفعل لا يكون موبقا لهم ، وجانيا عليهم ، فقال الله تعالى: ابن الأنباري: وحسبوا ألا تكون فتنة أي: ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر ، فعموا وصموا بمجانبة الحق . ثم تاب الله عليهم أي: عرضهم للتوبة بأن أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وإن لم يتوبوا ، ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد ، كثير منهم ، فخص بعضهم بالفعل الأخير ، لأنهم لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .