ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين .
قوله تعالى: كم أهلكنا من قبلهم من قرن القرن: اسم أهل كل عصر . [ ص: 5 ] وسموا بذلك; لاقترانهم في الوجود . وللمفسرين في المراد بالقرن سبعة أقوال .
أحدها: أنه أربعون سنة ، ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم . ابن سيرين
والثاني: ثمانون سنة ، رواه عن أبو صالح ابن عباس .
والثالث: مائة سنة ، قاله عبد الله بن بشر المازني ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن .
والرابع: مائة وعشرون سنة ، قاله زرارة بن أوفى ، وإياس بن معاوية .
والخامس: عشرون سنة ، حكاه الحسن البصري .
والسادس: سبعون سنة ، ذكره الفراء .
والسابع: أن القرن: أهل كل مدة كان فيها نبي ، أو طبقة من العلماء ، قلت السنون ، أو كثرت ، بدليل قوله: صلى الله عليه وسلم يعني: الذين أخذوا عن التابعين . "خيركم قرني" يعني: أصحابي "ثم الذين يلونهم" يعني: التابعين . " ثم الذين يلونهم"
فالقرن: مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان ، فهو في كل قوم على مقدار أعمارهم ، واشتقاق القرن من الاقتران وفي معنى ذلك الاقتران قولان .
أحدهما: أنه سمي قرنا; لأنه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه أهل ذلك الزمان في بقائهم . هذا اختيار [ ص: 6 ] والثاني: أنه سمي قرنا; لأنه يقرن زمانا بزمان ، وأمة بأمة ، قاله الزجاج . وحكى ابن الأنباري . عن ابن قتيبة قال: يرون أن أقل ما بين القرنين: ثلاثون سنة . أبي عبيدة
قوله تعالى: مكناهم في الأرض قال : أعطيناهم ما لم نعطكم . يقال مكنته ومكنت له: إذا أقدرته على الشيء بإعطاء ما يصح به الفعل من العدة . وفي هذه الآية رجوع من الخبر إلى الخطاب . ابن عباس
فأما السماء: فالمراد بها المطر . ومعنى "أرسلنا" أنزلنا ، و"المدرار" مفعال من در ، يدر ، والمعنى: نرسلها كثيرة الدر .
ومفعال ، من أسماء المبالغة ، كقولهم: امرأة مذكار: إذا كانت كثيرة الولادة للذكور ، وكذلك مئناث .
فإن قيل: السماء مؤنثة ، فلم ذكر مدرارا .
فالجواب: أن حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه أن يلزم التذكير في كل حال سواء كان وصفا لمذكر أو مؤنت ، كقولهم امرأة مذكار ، ومعطار ، وامرأة مذكر ، ومؤنث ، وهي كفور ، وشكور ، ولو بنيت هذه الأوصاف على الفعل ، لقيل كافرة ، وشاكرة ومذكرة ، فلما عدل عن بناء الفعل ، جرى مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة ، كقولهم: النعل لبستها ، والفأس كسرتها ، وكان إيثارهم التذكير للفرق بين المبني على الفعل ، والمعدول عن مثل الأفاعيل . والمراد بالمدرار: المبالغة في اتصال المطر ودوامه . يعني: أنها تدر وقت الحاجة إليها ، لا أنها تدوم ليلا ونهارا فتفسد ، ذكره ابن الأنباري .