القول في تأويل قوله تعالى:
[84] وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين
وأمطرنا عليهم مطرا " أي وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا غير متعارف، وهو مبين بقوله تعالى: وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل أي طين متحجر.
قال المهايمي : ولكفرهم بمطر الشرائع المحيي بإبقاء النسل وغيره، انقلب عليهم في صورة العقاب.
[ ص: 2806 ] وقرأت في التوراة المعربة، أن الملكين اللذين جاءا لوطا عليه السلام، يخبرانه ويبشرانه بهلاك قومه، قالا له: أخرج من هذا الموضع، من لك ههنا من أصهارك وبنيك وبناتك وجميع من لك، فإنا بعثنا الرب لنهلك هذه المدينة.
ولما كان عند طلوع الفجر ألح الملكان على لوط بأخذ امرأته وابنتيه، ثم أمسكا بأيديهم جميعا وصيراهم خارج المدينة وقالا: لا يلتفت أحد منكم إلى ورائه، وتخلصا إلى الجبل. ولما أشرقت أمطر الرب من السماء على سدوم وعمورة كبريتا ونارا، وقلب تلك المدن، وكل البقعة وجميع سكان المدن ونبت الأرض، والتفتت امرأته إلى ورائها فصارت نصب ملح، وقدم إبراهيم غدوة من أرضه، فتطلع إلى جهة سدوم وعمورة ، فإذا دخان الأرض صاعد كدخان الأتون. انتهى.
وقرأت في نبوة حزقيال عليه السلام، في الفصل السادس عشر: في بيان إثم سدوم ما نصه:
إن الاستكبار والشبع من الخبز، وطمأنينة الفراغ، كانت في سدوم وتوابعها، ولم تعضد يد البائس والمسكين، وتشامخن وصنعن الرجس أمامي، فنزعتهن كما رأيت انتهى.
وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج، لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بالبحر الميت ، أو بحيرة لوط ، والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئا.
قال في (مرشد الطالبين): بحر لوط ، هو بحر سدوم ، ويدعى أيضا البحر الميت ، وهو بركة مالحة في فلسطين ، طولها خمسون ميلا، وعرضها عشرة أميال، وهي أوطأ من بحر الروم بنحو 1250 قدما، وموقعها في الموضع الذي كانت عليه سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم . انتهى.
وقوله: فانظر كيف كان عاقبة المجرمين أي هؤلاء أجرموا بالكفر وعمل الفواحش، كيف أهلكناهم.
والنظر تعجيبا من حالهم، وتحذيرا من أعمالهم، فإن من تستولي عليه رذيلة الدعارة، تكبحه عن التوفيق نفسا وجسدا، وتورده موارد الهلكة والبوار، جزاء ما جنى لهم اتباع الأهواء.
[ ص: 2807 ] تنبيه في حد اللوطي:
اعلم أنه وردت السنة بقتل من لاط بذكر، ولو كان بكرا، وكذلك المفعول به إذا كان مختارا، لحديث ، عند ابن عباس أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم ، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: والبيهقي لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به » . قال « من وجدتموه يعمل عمل قوم ابن حجر : رجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافا.
وأخرج ابن ماجه من حديث والحاكم مرفوعا: أبي هريرة « اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا » - وإسناده ضعيف-.
قال ابن الطلاع في (أحكامه): لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه. وثبت عنه أنه قال: - رواه عنه اقتلوا الفاعل والمفعول به ابن عباس - انتهى. وأبو هريرة
وأخرج عن البيهقي أنه رجم لوطيا . علي
وأخرج أيضا عن البيهقي ، أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولا، أبي بكر قال: [ ص: 2808 ] هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار، فكتب علي بن أبي طالب إلى أبو بكر أن يحرقه بالنار . خالد بن الوليد
وأخرج عن أبو داود سعيد بن جبير ، عن ومجاهد : في البكر يؤخذ على اللوطية، يرجم . ابن عباس
وأخرج عن البيهقي أيضا، أنه سئل عن ابن عباس فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكسا، ثم يتبع بالحجارة . حد اللوطي
وقال المنذري : حرق اللوطية بالنار أبو بكر ، وعلي وعبد الله بن الزبير . وهشام بن عبد الملك
وبالجملة: فلما ثبت أن حده القتل بقي الاجتهاد في هيئته حرقا أو تردية أو غيرهما.
وقال بعض المحققين: إن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزنى فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل، محصنا أو غيره، وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنى، ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي. انتهى.
وقال الإمام الجشمي اليمني : لو كان في اللواط حد معلوم لما خفي على الصحابة، حتى شاورهم في ذلك رضي الله عنه، لما كتب إليه أبو بكر . خالد بن الوليد
وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد): لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب ، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت عنه أنه قال: - رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح - وقال اقتلوا الفاعل والمفعول به : حديث حسن، وحكم به الترمذي ، وكتب به إلى أبو بكر الصديق ، بعد مشاورة الصحابة، وكان خالد كرم الله وجهه أشدهم في ذلك. علي
[ ص: 2809 ] وقال ابن القصار وشيخنا: أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فقال : يرمى من شاهق، وقال أبو بكر الصديق كرم الله وجهه: يهدم عليه حائط، وقال علي : يقتلان بالحجارة. فهذا اتفاق منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته. ابن عباس
وهذا موافق لحكمه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ ذات محرم، لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال. ولهذا جمع بينهما في حديث رضي الله عنهما، فإنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ابن عباس . « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه »
وروي أيضا عنه: من وقع على ذات رحم فاقتلوه . وفي حديثه أيضا بالإسناد: . « من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه »
وهذا الحكم على وفق حكم الشارع، فإن المحرمات كلما تغلظت، تغلظت عقوبتها، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرما من وطء من يباح في بعض الأحوال، فيكون حده أغلظ.
وقد نص في إحدى الروايتين عنه، أن أحمد حكم اللواط سواء، فيقتل بكل حال، أو يكون حده حد الزاني. حكم من أتى بهيمة
واختلف السلف في ذلك، فقال : حده حد الزاني. وقال الحسن : يقتل بكل حال. وقال أبو سلمة الشعبي : يعزر، وبه أخذ والنخعي الشافعي ومالك وأبو حنيفة في رواية، فإن وأحمد أفتى بذلك، وهو راوي الحديث. انتهى. ابن عباس
وقد طعن الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث (الهداية) في دعوى إجماع الصحابة على قتل اللوطي في رواية : أن البيهقي جمع الصحابة فسألهم، فكان أشدهم في ذلك قولا أبا بكر ، فقال: نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأيهم على ذلك . قال علي ابن حجر : قلت: وهو ضعيف جدا، ولو صح لكان قاطعا للحجة. انتهى.
وجلي أن أو حديث صحيح السند والمتن، قطعي الدلالة. عقوبات القتل أعظم الحدود، فلا يؤخذ فيها إلا بالقواطع من كتاب أو سنة متواترة، أو إجماع
ولذا كان على الحاكم بذل جهده في ذلك استبراء لدينه - والله أعلم-.
[ ص: 2810 ]