القول في تأويل قوله تعالى:
[172] وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين
" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم أي: أخرج من أصلابهم [ ص: 2897 ] نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن، من أنهم كانوا نطفة قذفت إلى رحم الأمهات، ثم جعلت علقة، ثم مضغة، ثم أنشأهم بشرا سويا حيا مكلفا، فجعل خلقه إياهم كذلك، إخراجا من أصلابهم، لأن أصلهم خرج منها، و " من ظهورهم بدل من " بني آدم بدل البعض، وقرئ ((ذرياتهم)). " وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد كل واحدة من أولئك الذريات المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها، تقريرا لهم بربوبيته التامة.
قال الجشمي : أي أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقته، وغرائب صنعته، من أعضاء سوية، وحواس مدركة، وجوارح ظاهرة، وأعصاب وعروق وغير ذلك، مما يعلمه من تفكر فيه، وكلها تدل عليه وعلى صفاته ووحدانيته، فبالإشهاد بالأدلة، صار كأنه أشهدهم بقوله.
وقوله تعالى " ألست بربكم على إرادة القول، أي قائلا: ألست بربكم، ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم، فينتظم استحقاق المعبودية، ويستلزم اختصاصه به تعالى: " قالوا بلى شهدنا أي على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك، لأنهم بما ظهر عليهم من آثار الصنعة، صاروا كأنهم قالوا " بلى وإن لم يكن هناك قول باللسان.
فالآية من باب التمثيل المعروف في كلام العرب ، مثل تعالى خلقهم على فطرة التوحيد، وإخراجهم من ظهور آبائهم، شاهدين بربوبيته شهادة لا يخالجها ريب، بحمله إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر، ومسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا. والقصد من الآية الاحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته تعالى معرفة فطرية، لازمة لهم لزوم الإقرار منهم والشهادة. قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله والفطرة هي معرفة ربوبيته.
[ ص: 2898 ] وفي الصحيحين عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة . « ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ »
والجمعاء سالمة الأذن، والجدعاء مقطوعتها.
وفي صحيح عن مسلم عياض بن حمار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: . « يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم »
وروى عن الطبري عن الحسن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال : والله لقد قال الله في كتابه: الحسن وإذ أخذ ربك من بني آدم الآية -رواه « كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها » . الإمام أحمد - بدون استشهاد والنسائي بالآية. الحسن
وأما الأخبار المروية في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتكليمه تعالى إياهم ونطقهم، ثم إعادتهم إلى صلب أبيهم، فغير صحيحة الإسناد. وما حسن إسناده منها فغير صريح في ذلك، بل هو أقرب إلى ألفاظ الآية، كما بينه الحافظ ، قال رحمه الله: ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث ابن كثير أبي هريرة وعياض والأسود . وقد فسر الآية بذلك. الحسن
قالوا: ومعنى (أشهدهم) أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا. والشهادة [ ص: 2899 ] تارة تكون بالقول، كقوله: قالوا شهدنا على أنفسنا الآية، وتارة تكون حالا كقوله تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أي حالهم شاهدا عليهم بذلك، لأنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: وإنه على ذلك لشهيد كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كقوله: وآتاكم من كل ما سألتموه
قالوا: ومما يدل على أن المراد هذا، أن جعل الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قاله، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد.
" أن تقولوا أي كراهة أن تقولوا " يوم القيامة أي الذي يسأل فيه عن الربوبية والتوحيد. " إنا كنا عن هذا أي عن ربوبيته وتوحيده " غافلين أي لم ننبه عليه.
فإنهم حيث جبلوا على ما ذكر، صاروا محجوبين عاجزين عن الاعتذار بذلك، إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة.