[ ص: 3274 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[ 112 ] التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين .
التائبون أي : عن المعاصي ، ورفعه على المدح أي : هم التائبون ، كما دل عليه قراءة ( التائبين ) بالياء إلى قوله ، و ( الحافظين ) نصبا على المدح ، أو جرا صفة للمؤمنين .
وجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده ، أي : التائبون من المعاصي حقيقة ، الجامعون لهذه الخصال العابدون أي : الذين عبدوا الله وحده ، وأخلصوا له العبادة ، وحرصوا عليها الحامدون لله على نعمائه ، أو على ما نابهم من السراء والضراء السائحون أي : الصائمون ، أو الضاربون في الأرض تدبرا واعتبارا . وسننبه عليه الراكعون الساجدون أي : المصلون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله أي : في تحليله وتحريمه وبشر المؤمنين الموصوفين بالنعوت المذكورة .
ووضع المؤمنين موضع ضميرهم ، للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان ، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك ، وحذف المبشر به للتعظيم ، أو للعلم به ، لقوله في آية الأحزاب : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا
تنبيهات :
الأول : ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين .
قال : هو قول أهل التفسير واللغة جميعا . ورواه الزجاج مرفوعا ، وكذلك الحاكم . ابن جرير
قال : ووقفه أصح . ابن كثير
[ ص: 3275 ] وعن : كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة ، فهو الصيام . ابن عباس
وعن : السائحون الصائمون شهر رمضان . الحسن
قال الشهاب : استعيرت السياحة للصوم لأنه يعوق عن الشهوات ، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر .
ونقل الرازي عن أبي مسلم أن السائحين : السائرون في الأرض ، وهو مأخوذ من السيح ، سيح الماء الجاري ، والمراد به من خرج مجاهدا مهاجرا .
وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ، ثم ذكر هذه الآية في بيان ، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات . صفات المجاهدين
وروى مثله عن ابن أبي حاتم عبد الرحمن أنه قال : هم المهاجرون .
وعن أنهم المنتقلون لطلب العلم . عكرمة
قال : جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد ، فقد روى ابن كثير من حديث أبو داود أبي أمامة . أن رجلا قال : يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله »
أقول : لو أخذ هذا الحديث تفسيرا للآية لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها ، لأن الجهاد في سبيل الله ، كما يطلق على قتال المشركين ، يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى ، ومنه الهجرة والصوم ، والسفر للتفقه في الدين أو للاعتبار ، بل ذلك هو الجهاد الأكبر .
هذا على إرادة التوفيق بين المأثورات ، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية ، أعني الضرب في الأرض خاصة ، الذي عبر عنه عكرمة بالمنتقلين لطلب العلم ، لكان بمفرده كافيا في المعنى ، مشيرا إلى وصف عظيم ، وهذا ما حدا بأبي مسلم أن يقتصر عليه ، هو الحق في تأويل الآية .
[ ص: 3276 ] وقد رأيت لبعض المحققين مقالة في تأييده ، يجدر بالمحقق أن يقف عليها ، وهاك خلاصتها : قال : الكتاب الحكيم يأمر الإنسان كثيرا بأن يضحي قسما من حياته في السياحة والتسيار ، لأجل اكتشاف الآثار ، والوقوف على أخبار الأمم البائدة ليكون ذلك مثال عظة واعتبار ، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد .
ولا أريد أن أحشر لقارئ تلك الآيات ، فإن ذلك يؤدي إلى التطويل ، بل أريد أن أجتزئ منها بما يكفل ثبوت الدعوى ، وذلك في قوله تعالى : السائحون في هذه الآية ، ولم يقع لفظ ( سائحون ) في القرآن الكريم إلا هذه المرة الفذة .
ومع ذلك فقد تغلب عليها أهل التفسير ، فمنهم من قال هم الصائمون ، ومنهم من قال غيره .
والصحيح أن السائحون معناه السائرون ، مأخوذا من السيح وهو الجري على وجه الأرض ، والذهاب فيها ، وهذه المادة تشعر بالانتشار .
يقال : ساح الماء أي : جرى وانتشر ، والسيح أيضا الماء الجاري الذاهب في وجه الأرض .
ويطلق السائح على معنى يضاد الجامد ، وهو الماء المسفوح ، لأنه بانمياعه ينتشر في وعائه .
وقد عهدنا بألفاظ القرآن أنها يجب حملها على ظواهرها ، وعلى معانيها الحقيقية ، اللهم ما لم يمنع مانع عقلي ، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة وعليه فيجب حمل لفظ السائحون على معناه الظاهر الحقيقي ، وهو السائرون الذاهبون في الديار ، لأجل الوقوف على الآثار ، تواصلا للعظة بها والاعتبار ، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ .
وكذلك عهدنا بالمعنى المجازي أنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي ، في حال أن الأمر هنا بالعكس ، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي ، وذلك مثل آية : سيروا [ ص: 3277 ] أولم يسيروا أفلم يسيروا فسيروا وآخرون يضربون في الأرض ومن يهاجر في سبيل الله الآية .
فهذه الآيات هي قرائن نيرة تؤذن بأن السيح معناه السير ، فإنها وإن تكن من مادة أخرى ، إلا أن معناه يلاقي معنى السيح ، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة ، وذلك كآية : فسيحوا في الأرض أربعة فكلمة سيحوا هنا تفسر السائحون في الآية هذه ، وهم يقولون : خير ما فسرته بالوارد .
وبالجملة ، فصرف هذا اللفظ عن ظاهره تكسيل للأمة ، وتدبير على فتور همتها ، وضعف نشاطها ، وحيلولة بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة ، ورؤية عمران المسكونة ، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين ، وفيه ستر لنور الكتاب الذي هو أول مرشد للعالم ألا يألوا جهدا في السير والسياحة ، وأن ينقلب في البلاد أي : تنقيب .
وسيأتي تتمة لهذا في تفسير آية : سائحات في سورة التحريم إن شاء الله تعالى .
قال الرازي : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس ، لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس ، [ ص: 3278 ] فلا بد له من الصبر عليها ، وقد يلقى أفاضل مختلفين ، فيستفيد من كل ما ليس عند الآخر .
وقد يلقى الأكابر من الناس ، فيحقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة ، فينتفع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحول الخاصة بهم ، فتقوى معرفته .
وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين . انتهى .
وقال بعضهم : لا يعزب عنك أيها اللبيب أنه تعالى حث بني الإنسان على السفر في محكم كتابه العزيز ، وندد على من ارتدا منهم رداء الكسل ، وأوقع نفسه في وهدة الخمول ، وتلذذ بالتقاعد عن جوب البلاد ، وقطع الوهاد ، فقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها وقال صلى الله عليه وسلم : . « سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا »
وقد تكلم كثير من العلماء والحكماء والأدباء على مزايا السفر نظما ونثرا .
ومن أجل فوائده زيادة علمه ، وانتفاع غيره بما يعلمه وما يكتسبه ، ومنها ، وهو أعظمها ، رضا ربه ، ومزيد ثوابه بنفعه لعباده ، وأحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده .
وكذلك باتعاظه بأحوال الناس ، واعتباره بأمورهم ، واطلاعه في ساحته على الأسرار المكنونة ، والحكم التي دبر الله بها أمر المخلوقات وأحكم بها صنع الكائنات .
فمن وقف على سر الخالق زاد في تعظيمه وتقرب إليه بالطاعة والامتثال لأوامره ونواهيه ، وليس بخاف ما وقع للأنبياء والمرسلين ، والصحابة والتابعين ، والأولياء والصالحين ، من التنقلات والأسفار ، في القرى والأمصار ، للنظر والاعتبار .
[ ص: 3279 ] الثاني : قال القاضي : إنما جعل ذكر الركوع والسجود ، كناية عن الصلاة ، لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة ، هو قيامه وقعوده ، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود ، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره .
ويمكن أن يقال : القيام أول مراتب التواضع لله تعالى ، والركوع وسطها ، والسجود غايتها . فخص الركوع والسجود بالذكر ، لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية ، وتنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم . ذكره الرازي .
الثالث : ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوها :
فأما الأول : أعني قوله تعالى : والناهون عن المنكر فقالوا : سر العطف فيه إما الدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة ، وصفة واحدة ، لأن بينهما تلازما في الذهن والخارج ، لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر ، لأن أحدهما طلب فعل ، والآخر طلب ترك ، فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف ، بخلاف ما قبلهما ، أو لأنه لما عدد صفاتهم ، عطف هذين ليدل على أنه شيء واحد ، وخصلة واحدة ، والمعدود مجموعهما ، كأنه قيل : الجامعون بين الوصفين ، أو العطف لما بينهما من التقابل ، أو لدفع الإيهام ، وهذا معنى قول ( " المغني " ) : الظاهر أن العطف في هذا الوصف إنما كان من جهة أن الأمر والنهي من حيث أمر ونهي ، متقابلان بخلاف بقية الصفات ، أو لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر ، وهو ترك المعروف ، والناهي عن المنكر آمر بالمعروف . فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين ، وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر .
وأما الثاني : أعني قوله تعالى : والحافظون لحدود الله فقيل : سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبع ، من حيث إن السبعة هو العدد التام ، والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ، ولذلك تسمى ( واو الثمانية ) ونظر فيه بأن الدال على التمام لفظ [ ص: 3280 ] ( سبعة ) لاستعماله في التكثير ، لا معدوده .
والقول بواو الثمانية ذكروه في قوله تعالى : سبعة وثامنهم كلبهم وضعفه في ( " المغني " ) .
وقيل : سر العطف التنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل ، وهذا مجملها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفا ، نحو: زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله ، بالإجمال والتفصيل ، والعموم ، والخصوص ، عطف عليه .
وقيل : بقوة الجامع بالتلازم ، لأن من حصل الأوصاف السابقة ، فقد حفظ حدود الله .
وقيل : المراد بحفظ الحدود ظاهره ، وهي إقامة الحدود ، كالقصاص على من استحقه .
والصفات الأولى إلى قوله : الآمرون صفات محمودة للشخص في نفسه ، وهذه له باعتبار غيره ، فلذا تغير تعبير الصنفين ، فترك العاطف في القسم الأول ، وعطف في الثاني .
ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ، ترك فيها العطف لشدة الاتصال ، بخلاف هذه ، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به .
وهذا هو الداعي لإعراب التائبون مبتدأ موصوفا بما بعده ، والآمرون خبره .
فكأنه قيل : الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم ، وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملا في نفسه ، وبهذا اتسق النظم أحسن نسق من غير تكلف ، والله أعلم بمراده . كذا في ( " العناية " ) و ( " حواشي المغني " ) .