[ ص: 320 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[154 ]
nindex.php?page=treesubj&link=25561_30415_32416_34475_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=154ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون [ 154 ]
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=154ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ينهى تعالى عباده المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا ; بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة ، وتصرمت عنهم اللذات ، وأضحوا كالجمادات ، كما يتبادر من معنى الميت ، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم : الأحياء ; لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، كما قال تعالى في آل عمران :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=169ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=170فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=171يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين فقوله في هذه الآية "عند ربهم" يفسر المراد من حياتهم ; أي : إنها لأرواحهم عنده تعالى ، وقوله "ولكن لا تشعرون" أي بحياتهم الزوجية بعد موتهم ; إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم ، وإن حفظ بعضها عن التلف ، كما ترون النيام همودا لا يتحركون ، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا ، ولا عيش أرغد منه في الآخرة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي : فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه ، حتى في أن يقال عنه : ميت . فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم ، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر . انتهى .
ولذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=13720الأصم : يعني لا تسموهم بالموتى ، وقولوا لهم الشهداء الأحياء . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب الأصفهاني : الحياة على أوجه ، وكل واحد منها يقابله موت (الأولى) هي القوة النامية التي
[ ص: 321 ] بها الغذاء ، والشهوة إليه ، وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان . ولذلك يقال : نبات حي .
(والثانية) في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية . وهي في الحيوان دون النبات .
(والثالثة) القوة العاملة العاقلة . وهي في الإنسان دون الحيوان والنبات . وبها يتعلق التكليف . وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح : حياة ، وعلى ذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم وقيل : المحسن حي وإن كان في دار الأموات ، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء .
(قال) ونعود إلى معنى الآية فنقول : قد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النمو والغذاء ، ولا الحياة التي بها الحس . فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول . فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالإنسان . وقال : إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس . قال : والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة - التي هي الروح البدن . فمتى كان الإنسان محسنا كان منعما بروحه مسرورا لمكانه إلى يوم القيامة . وإن كان مسيئا كان به معذبا . وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة . وهو مذهب أصحاب الحديث . ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم . بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها .
ومما دل على صحته خبرا
nindex.php?page=hadith&LINKID=661781« الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » وما روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد [ ص: 322 ] بألفي عام» . وروي
nindex.php?page=hadith&LINKID=651281أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش -يوم بدر- وجمعوا في قليب ، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم فخاطبهم بقوله : « هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا » قيل : يا رسول الله ! أتخاطب جيفا ؟ فقال : « ما أنتم بأسمع منهم ، ولو قدروا لأجابوا » . إلى غير ذلك من الأخبار . وقال تعالى في آل
فرعون :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=46النار يعرضون عليها غدوا وعشيا وهذا يعني به قبل يوم القيامة ; لأنه قال في آخر الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=46ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب انتهى .
وفي
nindex.php?page=showalam&ids=13926البيضاوي وحواشيه : إن إثبات
nindex.php?page=treesubj&link=25561الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد ، وفساد البنية ؛ ونفي الشعور بها - دليل على أن حياتهم ليست الجسد ، ولا من جنس حياة الحيوان ، لأنها بصحة البنية ، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يدرك بالوحي لا بالعقل . انتهى .
وقد جاء الوحي ببيان حياتهم -كما أسلفنا- قال الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الروح): وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهذه حياة أرواحهم ، ورزقها دار ، وإلا فالأبدان قد تمزقت . وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه
[ ص: 323 ] الحياة : بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا . . . ! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات . فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا -قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . . ! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا . وصح عنه صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=663935« إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة » (وتعلق بضم اللام ; أي : تأكل العلقة) وهذا صريح في أكلها ، وشربها ، وحركتها ، وانتقالها ، وكلامها . . . ! انتهى .
قال
الطيبي : قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=660508« أرواحهم في جوف طير خضر » أي : يخلق لأرواحهم ، بعدما فارقت أبدانهم ، هياكل على تلك الهيئة ، تتعلق بها وتكون خلفا عن أبدانهم ، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية . وقال
ابن القيم في كتاب (الروح): إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار ، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها ، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح ، وإن أضمرت النفوس خلافه .
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان
[ ص: 324 ] تبع لها ، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا ، فتألمت بألمها ، والتذت براحتها ، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب -تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها ، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم ، فالأبدان هنا ظاهرة ، والأرواح خفية . والأبدان كالقبور لها . والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها ، فتجري أحكام البرزخ على الأرواح . فترى إلى أبدانها نعيما وعذابا . كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيما وعذابا ، فأحط بهذا الموضع علما واعرفه كما ينبغي ، يزل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج . وقد أرانا الله سبحانه ، بلطفه ، ورحمته وهدايته من ذلك ، أنموذجا في الدنيا من حال النائم . فإن ما ينعم به ، أو يعذب في نومه ، يجري على روحه أصلا ، والبدن تبع له ، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا ، فيرى النائم أنه في نومه ضرب ، فيصبح وآثار الضرب في جسمه . ويرى أنه قد أكل وشرب ، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه . ويذهب عنه الجوع والظمأ .
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم ، ثم يقوم من نومه ، ويضرب ويبطش ويدافع ، كأنه يقظان ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك . لأن الحكم ، لما جرى على الروح ، استعانت بالبدن من خارجه ، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس .
فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع ، فهكذا في البرزخ ، بل أعظم . فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى ، وهي متعلقة ببدنها ، لم تنقطع عنه كل الانقطاع . فإذا كان يوم حشر الأجساد ، وقيام الناس من قبورهم ، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا باديا . ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه ، وضيقه وسعته ، وضمه ، وكونه حفرة من حفر النار ، أو روضة من رياض الجنة- مطابق للعقل . وأنه حق لا مرية فيه . وأن من أشكل عليه ذلك ، فمن سوء فهمه ، وقلة علمه . انتهى .
[ ص: 320 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[154 ]
nindex.php?page=treesubj&link=25561_30415_32416_34475_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=154وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [ 154 ]
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=154وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ يَنْهَى تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا لِلشُّهَدَاءِ أَمْوَاتًا ; بِمَعْنَى الَّذِينَ تَلِفَتْ نُفُوسُهُمْ وَعَدِمُوا الْحَيَاةَ ، وَتَصَرَّمَتْ عَنْهُمُ اللَّذَّاتُ ، وَأَضْحَوْا كَالْجَمَادَاتِ ، كَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَى الْمَيِّتِ ، وَيَأْمُرُهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُمُ : الْأَحْيَاءُ ; لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=169وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=170فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=171يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ "عِنْدَ رَبِّهِمْ" يُفَسِّرُ الْمُرَادَ مِنْ حَيَاتِهِمْ ; أَيْ : إِنَّهَا لِأَرْوَاحِهِمْ عِنْدَهُ تَعَالَى ، وَقَوْلُهُ "وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ" أَيْ بِحَيَاتِهِمُ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ ; إِذْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا شَيْءٌ فِي أَبْدَانِهِمْ ، وَإِنْ حَفِظَ بَعْضَهَا عَنِ التَّلَفِ ، كَمَا تَرَوْنَ النِّيَامَ هُمُودًا لَا يَتَحَرَّكُونَ ، فَلَا فَخْرَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ، وَلَا عَيْشَ أَرْغَدُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14085الْحَرَّالِيُّ : فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَنْفِي عَنِ الْمُجَاهِدِ مَنَالَ الْمَكْرُوهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، حَتَّى فِي أَنْ يُقَالَ عَنْهُ : مَيِّتٌ . فَحَمَاهُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَشَدِّ غَرَضِ أَنْفُسِهِمْ ، لِاعْتِلَاقِ أَنْفُسِهِمْ بِجَمِيلِ الذِّكْرِ . انْتَهَى .
وَلِذَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13720الْأَصَمُّ : يَعْنِي لَا تُسَمُّوهُمْ بِالْمَوْتَى ، وَقُولُوا لَهُمُ الشُّهَدَاءُ الْأَحْيَاءُ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14343الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ : الْحَيَاةُ عَلَى أَوْجُهٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُقَابِلُهُ مَوْتٌ (الْأُولَى) هِيَ الْقُوَّةُ النَّامِيَةُ الَّتِي
[ ص: 321 ] بِهَا الْغِذَاءُ ، وَالشَّهْوَةُ إِلَيْهِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ . وَلِذَلِكَ يُقَالُ : نَبَاتٌ حَيٌّ .
(وَالثَّانِيَةُ) فِي الْقُوَّةِ الْحَاسَّةِ الَّتِي بِهَا الْحَرَكَةُ الْمَكَانِيَّةُ . وَهِيَ فِي الْحَيَوَانِ دُونَ النَّبَاتِ .
(وَالثَّالِثَةُ) الْقُوَّةُ الْعَامِلَةُ الْعَاقِلَةُ . وَهِيَ فِي الْإِنْسَانِ دُونَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ . وَبِهَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ . وَقَدْ يُقَالُ لِلْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ : حَيَاةٌ ، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَقِيلَ : الْمُحْسِنُ حَيٌّ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْأَمْوَاتِ ، وَالْمُسِيءُ مَيِّتٌ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْأَحْيَاءِ .
(قَالَ) وَنَعُودُ إِلَى مَعْنَى الْآيَةِ فَنَقُولُ : قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُمُ الْحَيَاةُ الَّتِي بِهَا النُّمُوُّ وَالْغِذَاءُ ، وَلَا الْحَيَاةُ الَّتِي بِهَا الْحِسُّ . فَإِنَّ فِقْدَانَهُمَا عَنِ الْمَيِّتِ مَحْسُوسٌ وَمَعْقُولٌ . فَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ اعْتَبَرَ الْحَيَاةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالْإِنْسَانِ . وَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ مُخَصَّصَةٌ بِالْقُوَّةِ الْمُسَمَّاةِ تَارَةً الرُّوحَ وَتَارَةً النَّفْسَ . قَالَ : وَالْمَوْتُ الْمُشَاهَدُ هُوَ مُفَارَقَةُ هَذِهِ الْقُوَّةِ - الَّتِي هِيَ الرُّوحُ الْبَدَنَ . فَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ مُحْسِنًا كَانَ مُنَعَّمًا بِرُوحِهِ مَسْرُورًا لِمَكَانِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا كَانَ بِهِ مُعَذَّبًا . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحُكَمَاءُ وَدَلُّوا عَلَيْهِ بِالْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ الْأَخْبَارُ وَالْآيَاتُ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . بَلْ إِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ الْمِلَلِ كُلِّهَا .
وَمِمَّا دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ خَبَرَا
nindex.php?page=hadith&LINKID=661781« الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ » وَمَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
« إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ [ ص: 322 ] بِأَلْفَيْ عَامٍ» . وَرُوِيَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=651281أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ -يَوْمَ بَدْرٍ- وَجُمِعُوا فِي قَلِيبٍ ، أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ : « هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا » قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَتُخَاطِبُ جِيَفًا ؟ فَقَالَ : « مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ ، وَلَوْ قَدَرُوا لَأَجَابُوا » . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ . وَقَالَ تَعَالَى فِي آلِ
فِرْعَوْنَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=46النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَهَذَا يَعْنِي بِهِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=46وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ انْتَهَى .
وَفِي
nindex.php?page=showalam&ids=13926الْبَيْضَاوِيِّ وَحَوَاشِيهِ : إِنَّ إِثْبَاتَ
nindex.php?page=treesubj&link=25561الْحَيَاةِ لِلشُّهَدَاءِ فِي زَمَانِ بُطْلَانِ الْجَسَدِ ، وَفَسَادِ الْبِنْيَةِ ؛ وَنَفْيَ الشُّعُورِ بِهَا - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَتِ الْجَسَدَ ، وَلَا مِنْ جِنْسِ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ ، لِأَنَّهَا بِصِحَّةِ الْبِنْيَةِ ، وَاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْرٌ يُدْرَكُ بِالْوَحْيِ لَا بِالْعَقْلِ . انْتَهَى .
وَقَدْ جَاءَ الْوَحْيُ بِبَيَانِ حَيَاتِهِمْ -كَمَا أَسْلَفْنَا- قَالَ الْإِمَامُ
ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ (الرُّوحِ): وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الشُّهَدَاءِ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، وَهَذِهِ حَيَاةُ أَرْوَاحِهِمْ ، وَرِزْقُهَا دَارٌّ ، وَإِلَّا فَالْأَبْدَانُ قَدْ تَمَزَّقَتْ . وَقَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ
[ ص: 323 ] الْحَيَاةَ : بِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً فَقَالَ : هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي ؟ وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا . . . ! فَفَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا -قَالُوا : يَا رَبِّ ! نُرِيدُ أَنْ تُرَدَّ أَرْوَاحُنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى . . ! فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تَرَكُوا . وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=663935« إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ » (وَتَعْلُقُ بِضَمِّ اللَّامِ ; أَيْ : تَأْكُلُ الْعَلَقَةَ) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَكْلِهَا ، وَشُرْبِهَا ، وَحَرَكَتِهَا ، وَانْتِقَالِهَا ، وَكَلَامِهَا . . . ! انْتَهَى .
قَالَ
الطِّيبِيُّ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=660508« أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ » أَيْ : يَخْلُقُ لِأَرْوَاحِهِمْ ، بَعْدَمَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهُمْ ، هَيَاكِلَ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ ، تَتَعَلَّقُ بِهَا وَتَكُونُ خَلَفًا عَنْ أَبْدَانِهِمْ ، فَيَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى نَيْلِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ . وَقَالَ
ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ (الرُّوحِ): إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الدُّورَ ثَلَاثَةً : دَارَ الدُّنْيَا ، وَدَارَ الْبَرْزَخِ ، وَدَارَ الْقَرَارِ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَارٍ أَحْكَامًا تَخْتَصُّ بِهَا ، وَرَكَّبَ هَذَا الْإِنْسَانَ مِنْ بَدَنٍ وَنَفْسٍ وَجَعَلَ أَحْكَامَ دَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْأَبْدَانِ ، وَالْأَرْوَاحُ تَبَعٌ لَهَا ، وَلِهَذَا جَعَلَ أَحْكَامَهُ الشَّرْعِيَّةَ مُرَتَّبَةً عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَرَكَاتِ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ ، وَإِنْ أَضْمَرَتِ النُّفُوسُ خِلَافَهُ .
وَجَعَلَ أَحْكَامَ الْبَرْزَخِ عَلَى الْأَرْوَاحِ ، وَالْأَبْدَانُ
[ ص: 324 ] تَبَعٌ لَهَا ، فَكَمَا تَبِعَتِ الْأَرْوَاحُ الْأَبْدَانَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، فَتَأَلَّمَتْ بِأَلَمِهَا ، وَالْتَذَّتْ بِرَاحَتِهَا ، وَكَانَتْ هِيَ الَّتِي بَاشَرَتْ أَسْبَابَ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ -تَبِعَتِ الْأَبْدَانُ الْأَرْوَاحَ فِي نَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا ، وَالْأَرْوَاحُ حِينَئِذٍ هِيَ الَّتِي تُبَاشِرُ الْعَذَابَ وَالنَّعِيمَ ، فَالْأَبْدَانُ هُنَا ظَاهِرَةٌ ، وَالْأَرْوَاحُ خَفِيَّةٌ . وَالْأَبْدَانُ كَالْقُبُورِ لَهَا . وَالْأَرْوَاحُ هُنَاكَ ظَاهِرَةٌ وَالْأَبْدَانُ خَفِيَّةٌ فِي قُبُورِهَا ، فَتَجْرِي أَحْكَامُ الْبَرْزَخِ عَلَى الْأَرْوَاحِ . فَتَرَى إِلَى أَبْدَانِهَا نَعِيمًا وَعَذَابًا . كَمَا جَرَى أَحْكَامُ الدُّنْيَا عَلَى الْأَبْدَانِ فَتَرَى إِلَى أَرْوَاحِهَا نَعِيمًا وَعَذَابًا ، فَأَحِطْ بِهَذَا الْمَوْضِعِ عِلْمًا وَاعْرِفْهُ كَمَا يَنْبَغِي ، يَزُلْ عَنْكَ كُلُّ إِشْكَالٍ يُورَدُ عَلَيْكَ مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ . وَقَدْ أَرَانَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، بِلُطْفِهِ ، وَرَحْمَتِهِ وَهِدَايَتِهِ مِنْ ذَلِكَ ، أُنْمُوذَجًا فِي الدُّنْيَا مِنْ حَالِ النَّائِمِ . فَإِنَّ مَا يَنْعَمُ بِهِ ، أَوْ يُعَذَّبُ فِي نَوْمِهِ ، يَجْرِي عَلَى رُوحِهِ أَصْلًا ، وَالْبَدَنُ تَبَعٌ لَهُ ، وَقَدْ يَقْوَى حَتَّى يُؤَثِّرَ فِي الْبَدَنِ تَأْثِيرًا مُشَاهَدًا ، فَيَرَى النَّائِمُ أَنَّهُ فِي نَوْمِهِ ضُرِبَ ، فَيُصْبِحُ وَآثَارُ الضَّرْبِ فِي جِسْمِهِ . وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ أَكَلَ وَشَرِبَ ، فَيَسْتَيْقِظُ وَهُوَ يَجِدُ أَثَرَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي فِيهِ . وَيَذْهَبُ عَنْهُ الْجُوعُ وَالظَّمَأُ .
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ تَرَى النَّائِمَ ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ نَوْمِهِ ، وَيَضْرِبُ وَيَبْطِشُ وَيُدَافِعُ ، كَأَنَّهُ يَقْظَانُ ، وَهُوَ نَائِمٌ لَا شُعُورَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . لِأَنَّ الْحُكْمَ ، لَمَّا جَرَى عَلَى الرُّوحِ ، اسْتَعَانَتْ بِالْبَدَنِ مِنْ خَارِجِهِ ، وَلَوْ دَخَلَتْ فِيهِ لَاسْتَيْقَظَ وَأَحَسَّ .
فَإِذَا كَانَتِ الرُّوحُ تَتَأَلَّمُ وَتَتَنَعَّمُ ، وَيَصِلُ ذَلِكَ إِلَى بَدَنِهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِتْبَاعِ ، فَهَكَذَا فِي الْبَرْزَخِ ، بَلْ أَعْظَمُ . فَإِنَّ تَجَرُّدَ الرُّوحِ هُنَاكَ أَكْمَلُ وَأَقْوَى ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِبَدَنِهَا ، لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ كُلَّ الِانْقِطَاعِ . فَإِذَا كَانَ يَوْمُ حَشْرِ الْأَجْسَادِ ، وَقِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ ، صَارَ الْحُكْمُ وَالنَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ ظَاهِرًا بَادِيًا . وَمَتَى أَعْطَيْتَ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّهُ تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ ، وَضِيقِهِ وَسِعَتِهِ ، وَضَمِّهِ ، وَكَوْنِهِ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ ، أَوْ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ- مُطَابِقٌ لِلْعَقْلِ . وَأَنَّهُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ . وَأَنَّ مَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، فَمِنْ سُوءِ فَهْمِهِ ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِ . انْتَهَى .