القول في تأويل قوله تعالى:
[173] إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
إنما حرم عليكم الميتة وهي في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة، إما في الفاعل أو في المفعول فدخل فيها: المنخنقة والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما عدا عليها السبع.
قال وقد خصص الجمهور من ذلك ابن كثير: لقوله تعالى: ميتة البحر، أحل لكم صيد البحر وطعامه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وحديث العنبر في الصحيح.
وفي المسند، والموطأ، والسنن: قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: . « هو الطهور ماؤه الحل ميتته »
[ ص: 379 ] وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه حديث والدارقطني ابن عمر: « أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان الحوت والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال » والدم وهو المسفوح أي: الجاري، كما صرح بذلك في الآية الأخرى والمفسر قاض على المبهم، وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمونه الفصد. وفي القاموس وشرحه: والفصيد دم كان يوضع في الجاهلية في معى من فصد عرق البعير، ويشوى، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة.
ويحكى: أنه بات رجلان عند أعرابي فالتقيا صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى، فقال: ما قريت وإنما فصد لي. فقال لم يحرم من فصد له - بسكون الصاد - فجرى ذلك مثلا لمن نال بعض المقصد، وسكن الصاد تخفيفا، أي: لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها. ويروى: من فزد له بالزاي بدل الصاد وبعضهم يقول: من قصد له - بالقاف - أي: من أعطي قصدا أي: قليلا. وكلام العرب بالفاء. وقال يعقوب: تأويل هذا أن الرجل كان يضيف الرجل في شدة الزمان، فلا يكون عنده ما يقريه، ويشح أن ينحر راحلته، فيفصدها، فإذا خرج الدم سخنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إياه ولحم الخنـزير ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم إما تغليبا، أو لأن اللحم يشمل ذلك لغة، لأنه ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده، وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر، وهو هنا على أصله في اللغة، وإما بطريق القياس على رأي ; لأنه إذا حرم لحمه الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم، ولما حرم ما يضر الجسم ويؤذي النفس، حرم ما يرين على القلب، فقال: لحمه: وما أهل به لغير الله أي: ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك [ ص: 380 ] مما كانت الجاهلية ينحرون له. وأصل الإهلال: رفع الصوت أي: رفع به الصوت للصنم ونحوه، وذلك كقول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى.
وذكر القرطبي عن أنه نقل عن ابن عطية أنه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها، فنحرت فيه جزورا، فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم. وذكر أيضا عن الحسن البصري رضي الله عنها: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم. والقصد سد ما كان مظنة للشرك. عائشة
قال النووي في " شرح مسلم ": فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له، وكان غير الله تعالى والعبادة له، كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما، قبل ذلك، صار بالذبح مرتدا. ذكره في الكلام على حديث رضي الله عنه: علي . « لعن الله من ذبح لغير الله »
قال وذكر الإهلال إعلام بأن الحرالي: هو أشد المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر. وقد روى ما أعلن عليه بغير اسم الله عن البخاري رضي الله عنها قالت: عائشة فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ; بل الذي علم أن اسم الله قد أعلن به عليه. إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر [ ص: 381 ] اسم الله عليه أم لا؟ فقال: « سموا عليه أنتم وكلوه » . قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر.
وروي عن رضي الله عنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. علي
فصل
فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات
فأما الميتة: فقال هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة، وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلذذ أجزائها، وعفنها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها. الحرالي:
وقال المهايمي في " تفسيره ": ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرم، وهو الميتة وما ذكر معها. فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله، تحقيقا أو تقديرا فتتعلق أرواحكم بالخبيث فتخبث، فينقطع عنها محبة الله. وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر، فكما لا يؤثر فيه النجاسة، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه، والجراد لأنه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات.
وأما خبث الدم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة.
وقال الإمام ابن تيمية: حرم لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، [ ص: 382 ] وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الدم المسفوح آدم مجرى الدم » . « إن الشيطان يجري من ابن
وأما خبث لحم الخنزير: فلأذاه للنفس، كما حرم ما قبله لمضرتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه: أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء: . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة، حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق. نقله « الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم » البقاعي.
وقد كشف لأطباء هذا العصر من المبنية على التجارب الحسية غير ما قالوه القدماء. فمن مضاره: أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة: كالمغص، والإسهال، والقيء، وفقد شهوة الطعام، أو النهم الشديد، وآلام الرأس، والإغماء، والدوار، واضطراب الفكر، وعروض نوبات صرعية، وتشنجات عصبية، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمى، ويودي بحياة المصاب...... إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم، ومضار سواها. مضار لحم الخنزير
[ ص: 383 ] قال حكيم: فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط، بل لإصلاح الروح والجسم معا..! فلم يترك ضارا لأحدهما إلا ونبه عليه تصريحا أو تلويحا... وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة.
وأما خبث المهل به لغير الله: فلأنه يرين على القلب، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرب عبادة، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ; فكان خبثه معنويا لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن، والشرع جاء للحفظ عما يضر مطلقا، ولصيانة مقام التوحيد.
ولما كان هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر. فقال: فمن اضطر أي: ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف، فأكل من شيء منه حال كونه: غير باغ أي: غير طالب له راغب فيه لذاته. من بغى الشيء وابتغاه طلبه وحرص عليه ولا عاد أي: مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة: فلا إثم عليه وإن بقيت حرمته، لأنه إذا لا يؤثر فيه الخبث لأنه كاره بالطبع. وقال تناوله حال الاضطرار واختلف الراغب: والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلة المذكورة، يعني: إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع. إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسد غيره مسده.
إن الله غفور لما أكله حال الضرورة: رحيم حيث رخص لعباده في ذلك إبقاء عليهم.
ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه، إثر ما ذكره من الأحكام، تحذيرا لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به، وهم أهل الكتاب، فقال سبحانه: