القول في تأويل قوله تعالى :
[9] ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب .
ألم يأتكم أي : في مؤاخذة من كفر : نبأ الذين من قبلكم قوم نوح [ ص: 3712 ] أي : مع كثرتهم : وعاد أي : مع غاية قوتهم : وثمود مع كثرة تحصنهم وصنائعهم : والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب
قال : هذا من تمام قول ابن جرير موسى لقومه ، يعني : وتذكاره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل .
قال : وفيما قال ابن كثير نظر ; والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ; فإنه قد قيل : إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام ابن جرير موسى لقومه لقصه عليهم ، ولا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضا ، أو عطف {الذين } على قوم نوح ، و : { لا يعلمهم } إلخ اعتراض ، ومعنى الاعتراض على الثاني : ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها ؟ إن في ذلك لمعتبرا . وعلى الأول : فهو ترق ، ومعناه : ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى بعدهم ؟ كأنه يقول : دع التفصيل فإنه لا مطمع فيه ، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل .
وقوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم يحتمل الأيدي والأفواه أن يكونا الجارحتين المعروفتين . وأن يكونا من مجاز الكلام . وفي الأول وجوه :
أي : ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل ، كقوله : عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أو وضعوها على أفواههم ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك. أو وضعوها على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن يكفوا ويسكتوا . أو أشاروا بأيديهم [ ص: 3713 ] إلى أفواه الرسل أن اسكتوا . و (في) بمعنى (إلى) أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل منعا لهم من الكلام ، أو أنهم أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليقطعوا كلامهم . ومن بالغ في منع غيره من الكلام ; فقد يفعل به ذلك . أو أشاروا بأيديهم إلى جوابهم وهو قولهم : إنا كفرنا أي : هذا جوابنا الذي نقوله بأفواهنا ، والمراد إشارتهم إلى كلامهم كما يقع في كلام المتخاطبين ، أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه ، أو يقررون ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب . قيل : وهو أقوى الوجوه المتقدمة ; لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار ، جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول . ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يمهلوا ، بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب . وفي تصديرهم الجملة بـ ( أن ) ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد .
وفي الثاني - أعني المعنى المجازي - وجوه :
قال أبو مسلم الأصفهاني : المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج ، وذلك لأن إسماع الحجة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يدا ، يقال : لفلان عندي يد ، إذا أولاه معروفا . وقد تذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد ، وأيضا العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أياد ، وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي ، وفي العدد الكثير الأيادي. فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي . وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ، ونظير قوله تعالى : إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم فلما كان القبول تلقيا بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردا في الأفواه . انتهى .
[ ص: 3714 ] وفي (" الرازي ") تتمة الأوجه فانظرها إن شئت .
قال في (" العناية ") : فإن قلت : قولهم : إنا كفرنا جزم بالكفر لا سيما وقد أكد بـ ( إن) ، فقولهم : وإنا لفي شك ينافيه ، قلت : أجيب بأن الواو بمعنى أو ، أي : أحد الأمرين لازم وهو : إنا كفرنا جزما فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه . وأيا ما كان ، فلا سبيل إلى الإقرار . وقيل : إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه ، فكفرنا بمعنى لم نصدق ، وذلك لا ينافي الشك ، أو متعلق الكفر الكتب والشرائع ، ومتعلق الشك وما يدعونهم إليه من التوحيد مثلا . انتهى . أي : فلا ينافي شكهم في ذلك كفرهم القطعي بالأول .
وقوله تعالى : مريب بمعنى موقع في الريبة ، من (أرابه ) أوقعه فيها ; أو ذي ريبة ، من (أراب) : صار ذا ريبة وهي صفة مؤكدة .