القول في تأويل قوله تعالى :
[60] وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا .
وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس أي : علما ، فلا يخفى عليه شيء من كفرهم [ ص: 3944 ] وتكذيبهم . ومنه ما جرى منهم ، إثر الرؤيا والإخبار بالشجرة ، من الجحود والهزء واللغو . كما قال سبحانه : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس قال الأكثرون : يعني ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الآيات . فلما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للناس، أنكر بعضهم ذلك وكذبوا . وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا للمخلصين . فكانت فتنة ، أي : اختبارا وامتحانا . وتمسك بهذا من جعل الإسراء مناما ; لكون الرؤيا مخصوصة بالمنام . وأجيب بأن قوله تعالى: إلا فتنة للناس يرده ; لأن رؤيا المنام لا يفتتن بها أحد ولا يكذب. وجاء في اللغة ( الرؤيا بمعنى الرؤية مطلقا ) وهو معنى حقيقي لها. وقيل: إنها حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا. وقد ذكر السهيلي أنه ورد في كلام العرب بهذا المعنى، وأنه كالقربى والقربة. وقيل : إنه مجاز، إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا ، أو جار على زعمهم . أو على التشبيه بها لما فيها من خرق العادة أو لوقوعها ليلا، أو لسرعتها . أفاده الشهاب.
وروى عن الطبري في الآية هذه; قال: الحسن أسري به صلى الله عليه وسلم عشاء إلى بيت المقدس ، فصلى فيه وأراه الله ما أراه من الآيات ، ثم أصبح بمكة، فأخبرهم أنه أسري به إلى بيت المقدس . فقالوا له : يا محمد ! ما شأنك؟ أمسيت فيه ثم أصبحت فينا ، تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس ؟ فعجبوا من ذلك حتى ارتد بعضهم عن الإسلام .
وقال قوم : الآية في رؤياه صلى الله عليه وسلم التي رأى أنه يدخل مكة . فروى البري عن ، قال : يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أنه دخل ابن عباس مكة هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة ، فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل ، فرده المشركون ، فقالت أناس : قد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حدثنا أنه سيدخلها . فكانت رجعته فتنتهم . وذلك عام الحديبية . ثم دخل مكة في العام المقبل . وأنزل الله عز وجل : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ولا يقال : إن السورة مكية وقصة الحديبية بعد الهجرة، لاحتمال أنه رأى تلك الرؤيا بمكة، [ ص: 3945 ] ونزلت عليه هذه الآية . ولكنه ذكرها عام الحديبية ; لأنه كان إذ ذاك بمكة . فعلم أن دخوله بعد خروجه منها . كذا قيل .
وذهب بعضهم إلى أن كثيرا من السور المكية ضم إليها آيات مدنية ، كما في " الإتقان " . رجح الأول وفاقا للأكثر . وقد قدمنا مرارا ; أن السلف قد يريدون بقولهم : ( نزلت الآية في كذا ) أن لفظ الآية مما يشمل ذلك . لا أنه كان سببا لنزوله حقيقة . وعليه ، فلا إشكال . والطبري
وقوله تعالى : والشجرة الملعونة في القرآن عطف على الرؤيا ، والأكثرون على أنها شجرة الزقوم ، المذكورة في سورة الصافات في قوله تعالى : أذلك خير نـزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين الآيات. وفتنتهم فيها ما رواه عن الطبري ابن عباس ; أن وقتادة أبا جهل قال: زعم صاحبكم هذا - يعني النبي صلوات الله عليه - أن في النار شجرة ، والنار تأكل الشجر ! فكذبوا بذلك . وفي رواية : أن أبا جهل قال : أيخوفني بشجر الزقوم ؟ ثم دعا بتمر وزبد وجعل يأكل ويقول : تزقموا ، فما نعلم الزقوم غير هذا . والمراد بلعنها في القرآن : لعن طاعمها فيه ، على أنه مجاز في الإسناد . أو الملعون بمعنى المؤذي لأنها تغلي في البطون كغلي الحميم . فهو إما مجاز مرسل أو استعارة . وقوله تعالى : ونخوفهم أي : بذلك وبنظائره من الآيات : فما يزيدهم أي: التخويف : إلا طغيانا كبيرا أي : تماديا فيما هم فيه من الضلال والكفر .
[ ص: 3946 ] قال المهايمي : أي : فلو أرسلنا إليهم الآيات المقترحة لقالوا: إنه أجل من أحاط بأبواب السحر . فلا فائدة في إرسالها سوى تعجيل العذاب الدنيوي . لكنه ينافي إظهار دينه على الدين كله .
ثم أشار تعالى إلى أن هذا الطغيان من اتباع الشيطان . وأنه وحزبه ، لعتوهم وتمردهم عن الحق ، في النار ، بقوله سبحانه :