[61] قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى [62] فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى [63] قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى .
قال لهم موسى أي: مقدما لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم: ويلكم لا تفتروا على الله كذبا أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: فيسحتكم أي: يستأصلكم: بعذاب أي: هائل لغضبه عليكم: وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا أي: بطريق التناجي والإسرار: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى أي: بمذهبكم [ ص: 4188 ] الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، بجعله عبدا لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. و: المثلى تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون.
لطيفة:
في قوله تعالى: إن هذان لساحران قراءات:
الأولى: " إن هذين لساحران " بتشديد النون من (إن) و(هذين) بالياء وهي قراءة أبي عمرو ، وهي جارية على السنن المشهور في عمل (إن).
الثانية: إن هذان لساحران بتحفيف إن وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقا بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى (إلا) و(إن) قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله:
أمس أبان ذليلا بعد عزته وما أبان لمن أعلاج سودان
والثالثة: إن هذان لساحران بتشديد (إن) و(هذان) بالألف. وخرجت على أوجه:
أحدها: موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة وآخرون. قال قائلهم:
تزود منا بين أذناه طعنة
[ ص: 4189 ] وقال آخر:
إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها
وثانيها: إن (إن) بمعنى (نعم) حكاه . واستدل بقول الراجز: المبرد
يا عمر الخير جزيت الجنه اكس بنياني وأمهنه
وقل لهن: إن أن إنه أقسم بالله لتفعلنه
وقول عبد الله بن قيس الرقيات :
ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه
ورد على المبرد ، بأنه لم يتقدم ما يجاب بـ(نعم) وأجاب الشمني، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمني. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا: أبو علي الفارسي أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محط الجواب قوله: فأجمعوا كيدكم إلخ، وما قبله توطئة. وقد رد في (المغني) هذا التخريج; بأن مجيء (نعم) شاذ حتى نفاه بعضهم. ومنعه الدماميني ; بأن والحذاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في: سيبويه لساحران لام الابتداء، زحلقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر. وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع (إن) التي بمعنى (نعم) لشبهها بالمؤكدة لفظا.
وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة.
[ ص: 4190 ] وثالثها: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو (هذا) جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفرده مبنيا، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين:
أحدهما: أن السبعة أجمعوا على الياء في قوله تعالى: إحدى ابنتي هاتين مع أن هاتين تثنية (هاتا) وهو مبني.
والثاني: أن (الذي) مبني وقد قالوا في تثنيته اللذين في الجر والنصب. وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: ربنا أرنا اللذين أضلانا وأجاب الأول; بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة (ابنتي) قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في: إن هذان لساحران أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في " هذان " للألف في " ساحران " . وأجاب عن الثاني بالفرق بين (اللذان) وهذان بأن اللذان تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه (بالزيدان) وهذان تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قال رحمه الله: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إن هذان لحن وإن رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه. عثمان
أحدها: إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟.
والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟.
[ ص: 4191 ] والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي.
والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى زيد بن ثابت رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة عثمان قريش . ولما بلغ رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قرأ: " عتى حين " ، على لغة ابن مسعود هذيل ، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش . فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين ملخصا.
هذا حاصل ما في (المغني) و (الشذور) و (حواشيهما) وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى: