القول في تأويل قوله تعالى :
[26] الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم .
الخبيثات أي : من النساء : للخبيثين أي : من الرجال : والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أي : بحيث لا يكاد يتجاوز كل واحد إلى غيره . و(الطيب ) : ضد الخبيث وهو الأفضل من كل شيء والأحسن والأجود . قال أبو السعود : وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين ، وخيرة الأولين والآخرين ، تبين بالضرورة . واتضح بطلان ما قيل في حقها من الخرافات ، [ ص: 4468 ] حسبما نطق به قوله تعالى : كون الصديقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم وهو الجنة . وبهذه الآية تم نبأ أهل الإفك .
واعلم أن ما اشتملت عليه الآيات من الأحكام والفوائد والمطالب والآداب ، لا تفي بها مجلدات . إلا أنا نشير إلى شيء من ذلك ، نقتبسه من أهم المراجع ، تتميما لما أجملناه في تأويلها .
فالأول : أن كان في غزوة المريسيع (تصغير مرسوع ، بئر أو ماء نبأ الإفك لخزاعة ) وكانت في شعبان سنة خمس . وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن أبي ضرار ، سيد بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريد حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من أصحابه . وخرج معهم جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها ، فأغار عليهم ، فسبى ذراريهم وأموالهم . وكانت رضي الله عنها قد خرجت معه ، عليه الصلاة والسلام ، في هذه الغزوة ، بقرعة أصابتها وكانت تلك عادته مع نسائه . فلما رجعوا من الغزوة ، نزلوا في بعض المنازل . فخرجت عائشة لحاجتها ففقدت عقدا لأختها كانت أعارتها إياه . فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها . فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها ، فظنوها فيه ، فحملوا الهودج ، ولا ينكرون خفته ، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها . وأيضا ، فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج ، لم ينكروا خفته . ولو كان الذي حمله واحدا أو اثنين لم يخف عليهما الحال . فرجعت عائشة إلى منزلهم وقد أصابت العقد ، فإذا ليس لها داع ولا مجيب . فقعدت في المنزل ، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها والله غالب على أمره ، يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء فغلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول عائشة صفوان بن المعطل (بفتح الطاء المشدودة سلمى ذكواني صحابي فاضل متقدم الإسلام ) : إنا لله وإنا إليه راجعون . زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في صحيح أبي حاتم وفي السنن . فلما رآها عرفها . وكان يراها قبل نزول الحجاب . فاسترجع وأناخ راحلته ، فقربها إليها ، فركبتها . وما كلمها كلمة واحدة . ولم [ ص: 4469 ] تسمع منه إلا استرجاعه . ثم سار بها يقودها حتى قدم بها ، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به . ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفسا . فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه . فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ويشيعه ويذيعه ويجمعه ويفرقه . وكان أصحابه يتقربون إليه . فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم . ثم استشار أصحابه في فراقها ، فأشار عليه رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها ، تلويحا لا تصريحا . وأشار عليه علي وغيره بإمساكها ، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء . أسامة ، لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه ، أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ، ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس فأشار بحسم الداء . وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها ، وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها ، ما هي فوق ذلك وأعظم منه ، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ومنزلته عنده ودفاعه عنه ; أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته ، من النساء وبنت صديقه بالمنزل الذي أنزلها به أرباب الإفك . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيا . وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربها من أن يبتليها بالفاحشة وهي تحت رسوله . ومن قويت معرفة الله ومعرفة رسوله وقدره عند الله في قلبه - قال كما قال فعلي وغيره من سادات الصحابة ، لما سمعوا ذلك : أبو أيوب سبحانك هذا بهتان عظيم وتأمل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في ذلك المقام ، من المعرفة به وتنزيهه عما لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه ، امرأة خبيثة بغيا . فمن ظن به سبحانه هذا الظن ، فقد ظن به السوء . وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله ، أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها . كما قال تعالى : الخبيثات للخبيثين فقطعوا قطعا لا يشكون فيه ، أن هذا بهتان عظيم وفرية ظاهرة .
فإن قيل : فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده فيما يليق به . وهلا قال : سبحانك هذا بهتان عظيم ، كما قاله فضلاء الصحابة ؟ [ ص: 4470 ] فالجواب : أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببا لها ، وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع الأمة إلى يوم القيامة . ليرفع بهذه القصة أقواما ويضع بها آخرين . ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا ، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا . واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهرا في شأنها . لا يوحي إليه في ذلك بشيء ليتم حكمته التي قدرها وقضاها ، ويظهر على أكمل الوجوه ، ويزداد المؤمنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده . ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا . ويظهر للرسول وللمؤمنين سرائرهم ، ولتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبيها . وتتم نعمة الله عليهم ، ولتشدد الفاقة والرغبة منها ومن أبيها ، والافتقار إلى الله ، والذل له ، وحسن الظن به ، والرجاء له . ولينقطع رجاؤها من المخلوقين ، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق . ولهذا وقت لهذا المقام حقه ، لما قال لها أبوها : قومي إليه ، وقد أنزل الله عليه براءتها ، قالت : والله ! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي .
وأيضا ، فكان من حكمة حبس الوحي شهرا ، أن القضية نضجت وتمخضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف ، إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها .
وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع . فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، والصديق ، وأهله وأصحابه ، والمؤمنون . فورد عليهم ورود الغيث على الأرض ، أحوج ما كانت إليه . فوقع منهم أعظم موقع وألطفه . وسروا به أتم السرور ، وحصل لهم به غاية الهناء . فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة ، وأنزل الوحي على الفور بذلك ، لفاتت هذه الحكم وأضعافها ، بل أضعاف أضعافها .
وأيضا فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عندهم ، وكرامته عليه . وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه ، والرد على أعدائه ، [ ص: 4471 ] وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه ، بل يكون هو وحده المتولي لذلك ، الثائر لرسوله وأهل بيته .
وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى . والتي رميت زوجته فلم يكن يليق أن يشهد ببراءتها . مع علمه ، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها ، ولم يظن بها سوءا قط ، وحاشاه وحاشاها . ولذلك لما استعذر من أهل الإفك ، قال : فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين . لكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه ، وثقته به ، وفى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه . حتى جاء الوحي بما أقر عينه وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه . « من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ والله ! ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا . وما كان يدخل على أهلي إلا معي »
ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك ، فحدوا ثمانين ثمانين . ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي ، مع أنه رأس الإفك . فقيل : لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة . والخبيث ليس أهلا لذلك . ولقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ، فيكفيه ذلك عن الحد . وقيل : بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه وقيل : الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو بينة . وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد فإنه إنما كان يذكر من أصحابه ولم يشهدوا عليه . ولم يكن يذكره بين المؤمنين . وقيل : حد القذف حق الآدمي ، لا يستوفى إلا بمطالبته : وإن قيل إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبي . وقيل : بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته . كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا . وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام . فإنه كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم . فلم يؤمن إثارة فتنة في حده ، ولعله ترك لهذه الوجوه كلها . فجلد مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش . وهؤلاء من المؤمنين الصادقين ، تطهيرا لهم وتكفيرا . وترك عدو الله ابن أبي إذا فليس هو من أهل ذاك [ ص: 4472 ] - هذا ما أفاده الإمام ابن القيم رحمه الله في (" زاد المعاد " ) وهو خلاصة الروايات في هذا الباب .
ثم قال رحمه الله : ومن تأمل قول الصديقة ، وقد نزلت براءتها ، فقال لها أبوها : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : والله ! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله - علم معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها . وإفراده بالحمد في ذلك المقام ، وتجديدها التوحيد ، وقوة جأشها وإدلالها ببراءة ساحتها ، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له . ولثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، قالت ما قالت . إدلالا للحبيب على حبيبه ، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال ، فوضعته موضعه . ولله ! ما كان أحبها إليه حين قالت : لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي . ولله ! ذلك الثبات والرزانة منها ، وهو أحب شيء إليها ، ولا صبر لها عنه ، وقد تنكر قلب حبيبها لها شهرا . ثم صادفت الرضاء منه والإقبال ، فلم تبادر إلى القيام إليه ، والسرور برضاه وقربه ، مع شدة محبتها له . وهذا غاية الثبات والقوة . انتهى .