ثم قال ابن تيمية رحمه الله وكما عظم الله الفاحشة ، عظم ذكرها بالباطل - وهو القذف . فقال بعد ذلك : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم [ ص: 4479 ] ثمانين جلدة الآية . ثم ذكر رمي الرجل امرأته وما أمر فيه من التلاعن . ثم ذكر قصة أهل الإفك وبين ما في ذلك من الخير للمقذوف ، وما فيه من الإثم للقاذف ، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير ، ويقولون : هذا إفك مبين . لأن دليله كذب ظاهر . ثم أخبر أنه قول بلا حجة فقال : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به . وقوله : إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم فهذا بيان لسبب العذاب . وهو تلقي الباطل بالألسنة ، والقول بالأفواه . وهما نوعان محرمان : القول بالباطل والقول بلا علم . ثم قال سبحانه : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم
فالأول تحضيض على الظن الحسن ، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف . ففي الأول قوله : اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقوله صلى الله عليه وسلم : وقوله : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به .
وفي الصحيح قوله لعائشة : « ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا » ؟ فهذا يقتضي جواز بعض الظن ، كما احتج البخاري بذلك ، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الرادع له عن فعل الفاحشة ، يجب أن يظن به الخير دون الشر . وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان ، ونهي عن قول الإنسان ما ليس له به علم ، لقوله تعالى : ولا تقف [ ص: 4480 ] ما ليس لك به علم والله جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة ، ما لم يجعله في شيء من المعاصي . لأنه جعل فيه الرجم وقد رجم قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط . وجعل العقوبة على القاذف بها ثمانين جلدة ، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد . ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين ، كما قال علي : لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري . وكما قال عبد الرحمن بن عوف : إذا شرب هذى وإذا هذى افترى . ، وحد المفتري ثمانون . وحد الشرب ثمانون
وقوله تعالى : إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة وهذا ذم لمن يحب ذلك . وذلك يكون باللقب فقط ، ويكون مع ذلك باللسان والجوارح . وهو ذم لمن يتكلم بها أو يخبر بها . محبة لوقوعها في المؤمنين ، إما حسدا أو بغضا ، أو محبة للفاحشة . فكل من أحب فعلها ، ذكرها .
وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها . وكذلك ذكرها غيبة محرم ، سواء كان بنظم أو نثر . وكذلك التشبيه بمن يفعلها ، منهي عنها مثل الأمر بها . فإن الفعل يطلب بالأمر تارة وبالإخبار تارة . فهذان الأمران للفجرة الزناة واللوطية ، مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين . أولئك يعتبرون من الغيرة بهم ، وهؤلاء من الاغترار يعتبرون . فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من قصص أشباههم ما يكون به لهم فيه قدوة .
ومن ذلك قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية . قيل : أراد الغناء . وقيل : أراد قصص ملوك الكفار . وبالجملة كل ما رغب النفوس في الطاعة ونهاها عن المعصية ، فهو من الطاعة . وما رغب في المعصية ونهى عن الطاعة ، فهو من المعصية ، فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة ، مثل النهي عنها وعنهم ، والذم لها ولهم وذكر أهلها مطلقا حيث يسوغ ذلك في وجوههم ومغيبهم - فهذا حسن يجب تارة ويستحب أخرى . كما قص الله قصص المؤمنين والفجار ليعتبروا بالأمرين .
وقد ذكر الله [ ص: 4481 ] عن أنبيائه وعباده الصالحين ، من ذكر الفاحشة وعلائقها على وجه الذم ما فيه عبرة . فقال تعالى : ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة إلخ . في مواضع ، وهذا فيه من التوبيخ ما فيه ، وليس من باب القذف واللمز . ثم توعدوه بإخراجه من القرية . وهذا حال أهل الفجور ، إذا كان بينهم من ينهاهم طلبوا إخراجه . وقد عاقب الله على الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوى . حيث أمر بنفي الزاني والمخنث . فمضت السنة ، بنفي هذا وهذا . وهو سبحانه وتعالى أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب . وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف في قوله : وراودته التي هو في بيتها عن نفسه إلى قوله : فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم وما ذكره بعده من قول يوسف : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب النفور عن المعصية والتمسك بالتقوى . وكذلك ما بينه في آخرها بقوله تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب الآية ، ومع هذا ، فمن الناس من يحب سماعها لما فيه من ذكر العشق وما يتعلق به ، لمحبته لذلك ولرغبته في الفاحشة ، حتى إن منهم من يسمعها النساء لمحبتهم للسوء ، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك . حتى قال بعض السلف : كل ما حصلته من سورة يوسف أنفقته في سورة النور . وقد قال تعالى : وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وقال : وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا الآيات . فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة ، ويبغض سماع ذلك إعراضا عن دفع هذه المحبة ، فهو مذموم ومن هذا ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في المعصية وصد عن سبيل الله ، ومنه سماع كلام أهل البدع ، والنظر [ ص: 4482 ] في كتبهم لمن يضره ذلك ، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات . والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وقوله : والشعراء يتبعهم الغاوون وقوله : هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين وما بعدها ، وقوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث وقوله : مستكبرين به سامرا تهجرون وقوله : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا وقوله : وإن تطع أكثر من في الأرض ومثل هذا في القرآن كثير ، فأهل المعاصي كثير في العالم ، بل هم أكثر ، كما قال تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله الآية ، وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملا ما يعلمه إلا الله ، وأهلها يدعون الناس إليها ويقهرون من يعصيهم ، ويزينونها لمن يطيعهم . فهم أعداء الرسل وأندادهم . فالرسل يدعون إلى الطاعة بالرغبة والرهبة . ويجاهدونهم عليها . وينهون عن المعاصي ويحذرون منها بالرغبة والرهبة . ويجاهدون من يفعلها . قال تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف الآية ، ثم قال : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر الآية ، وقوله تعالى : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ومثل هذا في القرآن كثير والله سبحانه قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته ، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر بالمعروف . والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته ، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه .