القول في تأويل قوله تعالى:
[4 - 8] إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أي: مددنا لهم في غيهم، فهم يتيهون في ضلالهم. وكان هذا جزاء على ما كذبوه به من الدار الآخرة والجزاء على الأعمال كما قال تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون أي: أشد الناس [ ص: 4658 ] خسرانا للنجاة وثواب الله وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم أي: لتؤتاه وتلقنه من عند حكيم في أمره ونهيه، عليم بالأمور جليها وخفيها. فخبره هو الصدق المحض والحكمة البالغة، كما قال: وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا والجملة مستأنفة، سيقت بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم، تمهيدا لما يعقبه من الأنباء الجليلة. وقد بدأ منها بما كان من أمر موسى عليه السلام واصطفائه وإيتائه من الآيات الباهرة ما أذل معانديه، وجعلهم مثل السوء. فقال سبحانه: إذ قال موسى لأهله أي: حين قفل من مدين إلى مصر، وأضل الطريق: إني آنست نارا أي: رأيتها: سآتيكم منها بخبر أي: عن الطريق: أو آتيكم بشهاب قبس أي: بشعلة مقتبسة: لعلكم تصطلون أي: تتدفئون به: فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها أي: بورك من في مكان النار ومن حول مكانها. ومكانها البقعة التي حصلت فيها. وتدل عليه قراءة (تباركت الأرض ومن حولها)، وعنه: بوركت النار. والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها، حدوث أمر ديني فيها، وهو تكليم الله أبي: موسى، واستنباؤه له، وإظهار المعجزات عليه. ورب خير يتجدد في بعض البقاع، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ويبث آثار يمنه في أباعدها. فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى فـ تلك البقعة المباركة؟ كذا في (الكشاف).
وقال (بارك) يتعدى بنفسه. فلذلك بني للمفعول: باركك الله، وبارك عليك، وبارك فيك وبارك لك. والمراد بـ(من) إما الباري تعالى وهو على حذف مضاف، أي: من قدرته وسلطانه في النار. وقيل المراد به السمين: موسى والملائكة. وكذلك قوله: ومن حولها وقيل المراد بـ(من) غير العقلاء. وهو النور والأمكنة التي حولها. انتهى.
ولذا قال : والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي [ ص: 4659 ] وحواليهما من أرض الزمخشري الشام. قال: ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله: ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين وحقت أن تكون كذلك. فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي إليهم، وكفاتهم أحياء وأمواتا.
ثم قال: ومعنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه، هي بشارة له بأنه قد مضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة. انتهى.
وقال القرطبي : هذا تحية من الله تعالى لموسى، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: "رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت".
وعن : لم تكن تلك النار نارا، وإنما كانت نورا يتوهج. وعنه: هي نور رب العالمين. ابن عباس
وأخرج عن ابن أبي حاتم أبي عبيدة عن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي موسى : أبو عبيدة أن بورك من في النار ومن حولها « إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور أو النار. لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره » ثم قرأ
قال : وأصل الحديث مخرج في صحيح ابن كثير من حديث مسلم : عمرو بن مرة وسبحان الله رب العالمين أي: الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات. قاله . ابن كثير
وقد أفاد أن المقام اقتضى التنزيه، دفعا لإيهام ما لا يليق من التشبيه. ثم إن موسى عليه السلام، أعلمه تعالى بأنه هو الذي يكلمه ويناجيه، لا ملك ولا خلق آخر، بل ذاته العلية المستحقة للألوهية والنعوت القدسية، فقال سبحانه: