الوجه الثاني : أنه إذا قيل هذه من المتشابه ، أو كان فيها ما هو من المتشابه ، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها ، ، فيقال : الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله ، إما المتشابه ، وإما الكتاب كله كما تقدم . ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة . وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث في وفد ابن إسحاق نجران ، أنهم احتجوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( إنا ونحن ) ونحو ذلك ، ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها ، وهو ما يحتمل معنيين ، وفي سائر الصفات ما هو من هذا الباب ، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى ، فإن نفي المتشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا ، وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى ، ونزيده تقريرا أن الله سبحانه يقول : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج وقال [ ص: 778 ] تعالى : الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنـزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون فأخبر أنه أنزله ليعقلوه ، وأنه طلب تذكرهم . وقال أيضا : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكير فيه ، ولم يستثن من ذلك شيئا . بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه ، مثل قوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وقوله : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله ، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يتدبر لما تدبر . وقال عليه السلام لما قيل له : هل ترك عندكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة . فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة ، والفهم أخص من العلم والحكم ، قال الله تعالى : علي ففهمناها سليمان [ ص: 779 ] وكلا آتينا حكما وعلما وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ، وقال : « رب مبلغ أوعى من سامع » . وأيضا فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن ، آيات الصفات وغيرها ، وفسروها بما يوافق دلالتها ، ورووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة توافق القرآن . وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم . مثل « بلغوا عني ولو آية » الذي كان يقول : لو أعلم أعلم بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته . [ ص: 780 ] عبد الله بن مسعود الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتا للصفات ورواية لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا ، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين ، بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم جلالة ، أصحاب وعبد الله بن عباس لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به ، بل أخذوا عن غيره مثل زيد بن ثابت ، عمر ، وابن عمر ، ولو كان معاني هذه الآيات منفيا أو مسكوتا عنه ، لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاما فيه ، ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ، ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية . وابن عباس .
قال حدثنا الذين كانوا يقرئوننا : أبو عبد الرحمن السلمي : عثمان بن عفان وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيه من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل . وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئا من ذلك لم ينفوا معناه ، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية . كقول وعبد الله بن مسعود لما سئل عن قوله تعالى : مالك بن أنس الرحمن على العرش استوى كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة . وكذلك ربيعة قبله . وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول .
فليس في أهل السنة من ينكره . وقد بين أن الاستواء معلوم ، كما أن سائر ما أخبر به معلوم ، ولكن الكيفية لا تعلم ، ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل الكيف معدوم ، وإنما قال : الكيف مجهول . وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من مالك : أهل السنة ، غير أن أكثرهم يقولون : لا تخطر كيفيته ببال ، ولا تجري ماهيته في مقال . ومنهم من يقول : ليس له كيفية ولا ماهية . فإن قيل : معنى قوله : الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه ، قيل : هذا ضعيف ، فإن هذا [ ص: 781 ] من باب تحصيل الحاصل ، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن ، وقد تلا الآية ، وأيضا فلم يقل ذكر الاستواء في القرآن ، ولا إخبار الله بالاستواء ، وإنما قال : الاستواء معلوم ، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم ، لم يخبر عن الجملة ، وأيضا فإنه قال : والكيف مجهول ، ولو أراد ذلك لقال : معنى الاستواء مجهول ، أو تفسير الاستواء مجهول ، أو بيان الاستواء غير معلوم ، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء ، لا العلم بنفس الاستواء ، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه . لو قال في قوله : إنني معكما أسمع وأرى كيف يسمع وكيف يرى ؟ لقلنا : السمع والرؤية معلوم والكيف مجهول . ولو قال : كيف كلم موسى تكليما ؟ لقلنا : التكليم معلوم والكيف غير معلوم . وأيضا فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة ، وأن ذاته فوق ذات العرش ، لا ينكرون معنى الاستواء ، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية . ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة . قال بعضهم : ارتفع على العرش : علا على العرش . وقال بعضهم عبارات أخرى . وهذه ثابتة عن السلف . وقد ذكر في صحيحه بعضها في آخره ، في كتاب الرد على البخاري الجهمية .
وأما التأويلات المحرفة مثل استولى وغير ذلك ، فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية . وأيضا قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات ، بل في صحيح [ ص: 782 ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البخاري لعائشة : إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ؛ فأولئك الذين سمى الله ، فاحذريهم » عائشة ! ، وهذا عام . وقصة « يا صبيغ بن عسل مع من أشهر القضايا ، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر بن الخطاب ، فسأل عمر عن : عمر والذاريات ذروا فقال : ما اسمك ؟ قال : عبد الله صبيغ ، فقال : وأنا عبد الله عمر ، وضربه الضرب الشديد . وكان إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول : ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع ابن عباس عمر بصبيغ . وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : . وكما قال تعالى : « إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ... » فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد ، كالذي يعارض بين آيات القرآن . وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وقال : لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم [ ص: 783 ] ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله ، فكان مقصودهم مذموما ، ومطلوبهم متعذرا ، مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها . ومما يبين الفرق بين المعنى والتأويل أن صبيغا سأل عن الذاريات وليست من الصفات . وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل مع علي بن أبي طالب ابن الكواء لما سأله عنها ، كره سؤاله ، لما رآه من قصده ، لكن كان رعيته ملتوية عليه ، لم يكن مطاعا فيهم طاعة علي حتى يؤدبه ، والذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات فيها اشتباه ، لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك ، إذ ليس في اللفظ ذكر الموصوف . والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر . وكذلك في الجاريات والمقسمات ، فهذا لا يعلمه إلا الله تعالى . وكذلك في قوله : ( إنا ونحن ) ونحوهما من أسماء الله التي فيها معنى الجمع كما اتبعته النصارى ، فإن معناه معلوم وهو الله سبحانه ، لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني بمنزلة الأسماء المتعددة ، مثل العليم والقدير والسميع والبصير ، فإن المسمى واحد ، ومعاني الأسماء متعددة ، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع . وأما التأويل الذي اختص الله به ، فحقيقة ذاته وصفاته ، كما قال عمر والكيف مجهول فإذا قالوا : ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره ؟ قيل : هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله . [ ص: 784 ] فإن قيل : فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مالك : لابن عباس : . قيل : أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه ، واللام هنا للتأويل المعهود ، لم يقل : تأويل كل القرآن . فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلا الله ، والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله . وهذا كقوله : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله وقوله : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله فإن المراد تأويل الخبر الذي فيه عن المستقبل ، فإنه هو الذي ينتظر ويأتي ، ولما يأتهم . وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر ، و تأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر ، والله سبحانه أعلم وبه التوفيق . انتهى كلام الشيخ تقي الدين . وإنما سقته بطوله لما أن هذا البحث من المعارك المهمة التي قل من حررها ونهج فيها منهج الحق كالشيخ - قدس سره - . ومع ما في خلال البحث من القواعد الجليلة في فن التفسير . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
[ ص: 785 ] وقال الإمام الجليل أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني في كتاب ( إيثار الحق على الخلق ) في بحث سبب الاختلاف الشديد بين الفرق ما نصه :
وأما الأصل الثاني وهو السمع فهو اختلافهم في أمرين :
أحدهما : في حتى يرد المتشابه إلى المحكم . معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما
وثانيهما : اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه ، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه .