القول في تأويل قوله تعالى:
[ 24 ] قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب
قال أي داود لقد ظلمك بسؤال نعجتك أي طلب نعجتك التي أنت أحوج إليها ليضمها إلى نعاجه أي مع استغنائه عن هذا الضم وإن كثيرا من الخلطاء أي الإخوان الأصدقاء المتخالطين في شئونهم ليبغي بعضهم على بعض أي بغي الأعداء مع أن من واجب حقهم النصفة على الأقل، إن لم يقوموا بفضيلة الإيثار إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي فإنهم لا يبغون وقليل ما هم أي وهم قليل. و ( ما ) مزيدة للإبهام والتعجيب من قلتهم.
قال الشهاب : فيه مبالغة من وجوه: وصفهم بالقلة، وتنكير ( قليل ) وزيادة ( ما ) الإبهامية. والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه، فكأنه قيل: ما أقلهم.
وفي قضائه عليه السلام هذا، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون. ذلك صدع بالحق أبلغ صدع فجهر بظلم خصمه وبغيه جهرا لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم. وعرف الباغي ظلمه وحيفه، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه. ثم نفس عن قلب المظلوم البائس، وروح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة - خلة البغي [ ص: 5088 ] وعدم الإنصاف - مع الخلطة والخلة، ليتأسى ويتسلى كما قيل ( إن التأسي روح كل حزين ) ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة، ممن آمن وعمل صالحا، فكيف بغيرهم؟ وكلها حكم وغرر ودرر، حقائق تنطبق على أكثر هذا السواد الأعظم من الناس، الذين يدعون المحبة، والصداقة.
، إسهابا نوعوا فيه الأبواب، ولونوا فيه الفصول. ومع ذلك لا تزال الشكوى عامة. وقد امتلأت من منظومها ومنثورها كتب الأدب، كما لا يخفى على من له إلمام به. وبالله التوفيق ولعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق وظن داود أنما فتناه أي ابتليناه بتلك الحكومة وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك أي ما استغفر منه وإن له عندنا لزلفى أي لقربا وحسن مآب أي مرجعا حسنا وكرامة في الآخرة.
تنبيهات:
الأول - للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة ووجوه متنوعة. مرجعها إلى مذهبين: مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألم به داود عليه السلام ثم غفر له. ومذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار له بذلك. فممن ذهب إلى الأول . فإنه قال: هذا مثل ضربه الخصم المتسورون على ابن جرير داود محرابه. وذلك أن داود كانت له، فيما قيل، تسع وتسعون امرأة. وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة. فلما قتل نكح، فيما ذكر، داود امرأته. ثم لما قضى للخصمين بما قضى، علم أنه ابتلي. فسأل غفران ذنبه وخر ساجدا لله وأناب إلى رضا ربه، وتاب من خطيئته. هذا ما قاله . ثم أسند قصته مطولة من روايات عن ابن جرير ابن عباس والسدي وعطاء والحسن وقتادة ووهب . ومن طريق عن ومجاهد مرفوعا. ويشبه سياق بعضها ما ذكر في التوراة المتداولة الآن. أنس
قال السيوطي في (الإكليل): القصة التي يحكونها في شأن المرأة، وأنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل، أخرجها من حديث ابن أبي حاتم مرفوعا. [ ص: 5089 ] وفي إسناده أنس ، وحاله معروف، عن ابن لهيعة ابن صخر عن يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وأخرجها من حديث موقوفا. انتهى. ابن عباس
أقول: أما المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فلم يأت من طريق صحيح.، أما الموقوف من ذلك على الصحب والأتباع رضي الله عنهم، فمعولهم في ذلك ما ذكر في التوراة من هذا النبأ، أو الثقة بمن حكى عنها. وينبني على ذلك ذهابهم إلى تجويز مثل هذا على الأنبياء. وقد ذهبت طائفة إلى تجويز ما عدا الكذب في التبليغ. كما فصل في مطولات الكلام.
قال ابن حزم رحمه الله: وهو قول الكرامية من المرجئة، وابن الطيب الباقلاني من الأشعرية، ومن اتبعه، وهو قول اليهود والنصارى. ثم رد هذا القول، رحمه الله، ردا متينا.
وأما المذهب الثاني، فهو ما جزم به ابن حزم في ( الفصل) و عبارته: ما حكاه تعالى عن داود عليه السلام قول صادق صحيح، لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولدها اليهود. وإنما كان ذاك الخصم قوما من بني آدم، بلا شك، مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم. بغى أحدهم على الآخر على نص الآية. ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء، فقد كذب على الله عز وجل، وقوله ما لم يقل، وزاد في القرآن ما ليس فيه، وكذب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة، أنه كذب الملائكة. لأن الله تعالى يقول وهل أتاك نبأ الخصم فقال هو: لم يكونوا قط خصمين، ولا بغى بعضهم على بعض، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة، ولا كان للآخر نعجة واحدة، ولا قال له أكفلنيها. فاعجبوا. لم يقحمون فيه الباطل أنفسهم؟ ونعوذ بالله من الخذلان. ثم كل ذلك بلا دليل، بل الدعوى المجردة. وتالله ! إن كل امرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره، ثم يعرض زوجها للقتل عمدا، ليتزوجها. وعن أن يترك صلاته لطائر يراه. هذه أفعال السفهاء المتهوكين الفساق المتمردين. لا أفعال [ ص: 5090 ] أهل البر والتقوى.
فكيف برسول الله داود عليه السلام الذي أوحى إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه ؟ لقد نزهه الله عز وجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله. فكيف أن يستضيف إلى أفعاله؟ وأما استغفاره وخروره ساجدا، ومغفرة الله له، فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة.
. فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض. والملائكة كما قال الله تعالى والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبي. ولا من مذنب ولا من غير مذنب ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم
وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام وظن داود أنما فتناه فقد داود عليه السلام أن يكون ما آتاه الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة . فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه. فاستغفر الله تعالى من هذا الظن، فغفر الله تعالى له هذا الظن. إذ لم يكن ما آتاه الله تعالى من ذلك فتنة. انتهى كلام ظن ابن حزم ، وهو وقوف على ظاهر الآية، مجردا عن إشارة وإيماء.
وقال البرهان البقاعي في ( تفسيره ): وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود.
ثم قال: وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام لأن عيسى عليه السلام من ذريته، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه. انتهى.
ثم قال: وقوله تعالى فغفرنا له ذلك أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه. وهذه الدعوى لداود عليه السلام في الأحكام . تدريب
وذكرها للنبي - صلى الله عليه وسلم - تدريب له في الأناة في جميع أموره على الدوام. ولما ذكر هذا، ربما أوهم شيئا في مقامه - صلى الله عليه وسلم -، فدفعه بقوله وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب فالقصة لم يجر ذكرها [ ص: 5091 ] إلا للترقية في رتب الكمال. وأول دليل على ما ذكرته، أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الحكم، لا بامرأة ولا غيرها. وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر. فكم من باطل مشهور، ومذكور، هو عين الزور. انتهى.
وقال : قد ذكر المفسرون ههنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات. ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه. ولكن روى ابن كثير هنا حديثا لا يصح سنده، لأنه من رواية ابن أبي حاتم يزيد الرقاشي عن رضي الله عنه. أنس ويزيد ، وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة. الأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل. فإن . انتهى. القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا
وقال في (الشفا): وأما قصة القاضي عياض داود عليه السلام، فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيها الإخباريون على أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله على شيء من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح.
والذي نص الله عليه قوله وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب وقوله فيه " أواب " فمعنى فتناه أي اختبرناه. و " أواب " قال : مطيع. وهذا التفسير أولى. قال قتادة ابن عباس : ما زاد وابن مسعود داود على أن قال للرجل: انزل عن امرأتك وأكفلنيها. فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه. وأنكر عليه شغله بالدنيا. وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره. وقد قيل خطبها على خطبته، وقيل: بل أحب بقلبه أن يستشهد.
وحكى أن ذنبه الذي استغفر منه قوله السمرقندي لقد ظلمك فظلمه بقول خصمه. وقيل: بل لما خشيه على نفسه، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا. وإلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك ذهب أحمد بن نصر ، وغيرهما من المحققين. وأبو تمام
قال : ليس في قصة الداودي داود وأوريا خبر يثبت. ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم. وقيل: إن الخصمين اللذين اختصما إليه، رجلان في نتاج غنم على ظاهر الآية. وقيل: بل لما خشي على نفسه وظن من الفتنة لما بسط له من الملك والدنيا. انتهى.
[ ص: 5092 ] وقال ابن القيم في أواخر كتابه ( الجواب الكافي ) في مباحث العشق: وقد . كما في سنن أرشد - صلى الله عليه وسلم - المتحابين إلى النكاح مرفوعا: ابن ماجه . ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله دواءه شرعا وقدرا. وبه تداوى نبي الله لم ير للمتحابين مثل النكاح داود عليه السلام ولم يرتكب نبي الله محرما. وإنما تزوج المرأة وضمها إلى نسائه لمحبته لها. وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلو مرتبته. ولا يليق بنا المزيد على هذا. انتهى.
وهذا منه تسليم ببعض القصة لا تمامها. وهو من الأقوال فيها.
وأما دعوى بعضهم أن التوراة تعد داود ملكا حكيما، لا نبيا، بدليل ذكره في أسفار الملوك منها، وما فيها من أنه بعث إليه نبي يقال له قاشان ، ضرب له المثل المذكور فدعوى مردودة من وجوه:
منها أن الاستدلال بالتوراة التي بين أيديهم في إثبات أو نفي لا يعول عليه. كيف لا؟ وقد أوتينا بيضاء نقية محفوظة من التغيير والتبديل بحمده تعالى. ومنها أن نبوة داود عليه السلام لا خلاف فيها عند المسلمين، فلا عبرة بخلاف غيرهم.
ومنها أنه لا مانع أن تجتمع النبوة والملك لمن أراده الله واصطفاه. وقد فعل ذلك بداود وسليمان عليهما السلام.
ومنها أنه لا حاجة في كتابنا الكريم أن يتمم بما جاء في غيره، أو يحاول رده إلى سواه من الكتب، أو هي إليه، لاستغنائه بنفسه. بل وكونه مهيمنا على سائر الكتب، كما أخبر الله تعالى عنه. فليتأمل ذلك. والله أعلم.
وقد روي أن حدث بنبأ عمر بن عبد العزيز داود على ما يرويه القصاص، وعنده رجل من أهل الحق. فكذب المحدث به، وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه، فما ينبغي إظهارها عليه. فقال : لسماعي هذا الكلام، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. نقله عمر . الزمخشري
[ ص: 5093 ] قال الناصر في ( الانتصاف ): وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، داود وغيره، منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب، مبرءون من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة. وهذا هو الحق الأبلج، والسبيل الأبهج، إن شاء الله تعالى. انتهى.
التنبيه الثاني: قال : في هذه القصة دليل على ابن الفرس ( أي لظاهر المحراب. إلا أنه ليس نصا في محراب المسجد ) والتلطف في رد الإنسان عن المكروه صنعه. وأنه لا يؤاخذ بعنف ما أمكن. جواز القضاء في المسجد . وجواز المعاريض من القول
قال : وإنما جاءت على طريقة التمثيل والتعريض، دون التصريح، لكونها أبلغ في التوبيخ. من قبل أن المتأمل إذا أداه إلى الشعور بالعرض به، كان أوقع في نفسه وأشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى إلى التنبيه على الخطأ فيه، من أن يباده به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء؟ كيف أوصوا في سياسة الولد، إذا وجدت منه هنة منكرة، بأن يعرض له بإنكارها عليه، ولا يصرح. الزمخشري
وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله، إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية، فاستسمج حال نفسه. وذلك أزجر له. لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله، ومقياسا لشأنه. فتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة. مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة.
الثالث: قال في قوله تعالى ابن مسعود إن هذا أخي أي على ديني. أخرجه . ففيه جواز إطلاق ( الأخ ) على غير المناسب. واستدل بقوله تعالى ابن أبي حاتم وإن كثيرا من الخلطاء على ، أفاده في " الإكليل ". جواز الشركة
الرابع: قال السيوطي في (الإكليل): استدل بقوله وخر راكعا من أجاز . والأكثرون على أن الركوع هنا مجاز مرسل، عن [ ص: 5094 ] السجود. لأنه لإفضائه إليه، جعل كالسبب، ثم تجوز به عنه. أو هو استعارة له، لمشابهته له في الانحناء والخضوع. التعويض عن سجود التلاوة بركوع
الخامس: قال : اختلف الأئمة في سجدة ابن كثير ص هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين: أحدهما أنها ليست من العزائم، بل هي سجدة شكر. لما روي رضي الله عنهما أنه قال: إنها ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها ابن عباس ، رواه عن أحمد وأصحاب السنن. والبخاري
وعنه أنه قال: ص وقال: سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة، ونسجدها شكرا ، تفرد به إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في . النسائي
وعن رضي الله عنه قال: أبي سعيد الخدري ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها. فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود. فقال - صلى الله عليه وسلم -:إنما هي توبة نبي. ولكن رأيتكم تشزنتم، فنزل وسجد . تفرد به قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر . وإسناده على شرط الصحيح. أبو داود