القول في تأويل قوله تعالى:
[15 - 19] إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم
إن المتقين أي: الذين اتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه في الدنيا، وبتجنب [ ص: 5526 ] القول بالخرص والتخمين في الأمور الاعتقادية في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم قال : أي: عاملين ما أمرهم به ربهم، مؤدين فرائضه. وقال غيره: أي: قابلين لما أعطاهم من النعيم الأخروي، راضين به. ابن جرير
وهذا هو الوجه. ولذا قال : والذي فسر به ابن كثير فيه نظر؛ لأن قوله تبارك وتعالى ابن جرير آخذين حال من قوله في جنات وعيون فالمتقون حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم ربهم أي: من النعيم والسرور والغبطة.
ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله:
إنهم كانوا قبل ذلك يعني: في الدنيا محسنين أي: قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم بظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم، كما بينه بقوله سبحانه:
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون أي: كانوا يهجعون هجوعا قليلا؛ لتقوى نفوسهم على عبادته تعالى بنشاط.
روى عن ابن جرير في الآية: أنهم كانوا يصلون ما بين هاتين الصلاتين ما بين المغرب والعشاء. وعن أنس محمد بن علي : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة.
وعن مطرف : قل ليلة أتت عليهم إلا صلوا فيها من أولها أو من وسطها.
وعن قال: لا ينامون من الليل إلا أقله، كابدوا قيام الليل. الحسن
وقرأ هذه الآية فقال: لست من أهل هذه الآية. الأحنف بن قيس
وعن : أن الوقف على قوله تعالى: الضحاك كانوا قليلا أي: أن المحسنين كانوا قليلا، ثم ابتدئ فقيل: من الليل ما يهجعون و " ما " نافية أي: لا يهجعون.
قال : هذا القول فيه بعد وتعسف. ابن كثير
[ ص: 5527 ] لطيفة:
في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم وترك الاستراحة، وذلك ذكر القليل. والليل الذي هو وقت النوم، والهجوع الذي هو الخفيف من النوم، وزيادة (ما)؛ لأنها تدل على القلة.
وبالجملة ففي الآية ، وذم نومه كله، والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة. استحباب قيام الليل
وبالأسحار هم يستغفرون قال القاضي : أي: أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.
قال الرازي : في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه؛ فيستغفرون من التقصير، وهذا سيرة الكريم: يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به. وفيه وجه آخر ألطف منه: وهو أنه تعالى لما بين أنهم يهجعون قليلا، والهجوع مقتضى الطبع، قال: يستغفرون أي: من ذلك القدر من النوم القليل. وفيه لطيفة أخرى نبينها في جواب سؤال: وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر، وما قال: كانوا كثيرا من الليل ما يسهرون، فما الحكمة فيه؟ مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد، لا الهجوع؟ نقول: إشارة إلى أن نومهم عبادة، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلا، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، وهو الاستغفار، في وجوه الأسحار، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار.
ثم قال: والاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر بقولهم: (ربنا اغفر لنا). وطلب المغفرة بالفعل أي: بالأسحار، يأتون بفعل آخر طلبا للغفران، وهو الصلاة. والأول أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر. انتهى. ويؤيد الثاني الإشارة إلى الزكاة في الآية بعدها، والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات، الإشارة إلى أنه ركنها المهم في التهجد، بل وفي غيره، [ ص: 5528 ] فيكون من إطلاق الجزء على الكل، وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها، كالركوع والسجود بين السجدتين وآخر الصلاة، كما أخرجه الشيخان وأهل السنن- و وسر التعبير عن الصلاة بالاستغفار « كان صلى الله عليه وسلم يطيل الركوع والسجود والتهجد » لذلك.
لطيفة:
قال في (أساس البلاغة): إنما سمي (السحر) استعارة؛ لأنه وقت إدبار الليل وإقبال النهار، فهو متنفس الصبح. انتهى. الزمخشري
وفي أموالهم حق للسائل والمحروم أي: الفقير المتعفف الذي يظن غنيا، فيحرم الصدقة.
قال : هذان فقيرا أهل الإسلام: سائل يسأل في كفه، وفقير متعفف، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم. قتادة
وفي (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم: . « ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه »
وروى عن الإمام أحمد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسين بن علي . ورواه « للسائل حق وإن جاء على فرس » وأسنده عن أبو داود كرم الله وجهه. علي
ويدخل في المحروم كل من لا مال له، ومن هلك ماله بآفة، ومن حرم الرزق واحتاج، إلا أن أهم أفراده المتعفف؛ ولذا عول عليه الأكثر.
وروى عن ابن أبي حاتم : في أموالهم حق سوى الزكاة يصلون بها رحما، أو يقرون بها ضيفا، أو يحملون بها كلا. ابن عباس
[ ص: 5529 ] ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات؛ لكثرة الآيات الواضحة، بقوله سبحانه: