القول في تأويل قوله تعالى:
[30 ]
nindex.php?page=treesubj&link=29747_31807_31808_31825_34091_34265_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة أي : قوما يخلف بعضهم بعضا ، قرنا بعد قرن . كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165وهو الذي جعلكم خلائف الأرض وقال
[ ص: 95 ] nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=62ويجعلكم خلفاء الأرض وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=60ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=169فخلف من بعدهم خلف ويجوز أن يراد : خليفة منكم ، لأنهم كانوا سكان الأرض ، فخلفهم فيها آدم وذريته ، وأن يراد : خليفة مني ، لأن
آدم كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبي :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=26إنا جعلناك خليفة في الأرض والغرض من إخبار الملائكة بذلك ، هو أن يسألوا ذلك السؤال ، ويجابوا بما أجيبوا به ، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم ، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم ، أو الحكمة : تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها ، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم -وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة- أو تعظيم شأن المجعول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون هذا تعجب من أن يستخلف -لعمارة الأرض وإصلاحها- من يفسد فيها ، واستعلام عن الحكمة في ذلك . أي : كيف تستخلف هؤلاء ، مع أن
[ ص: 96 ] منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ، ونقدس لك -أي ولا يصدر عنا شيء من ذلك- وهلا وقع الاقتصار علينا ... ؟ فقال تعالى مجيبا لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" أي : إن لي حكمة -في خلق الخليقة- لا تعلمونها .
فإن قلت : من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجبوا منه ، وإنما هو غيب ؟ أجيب : بأنهم عرفوه : إما بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية . فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=26من صلصال من حمإ مسنون أو فهموا من "الخليفة" أنه الذي يفصل بين الناس، ما يقع بينهم من المظالم ، ويردعهم عن المحارم والمآثم .
قال العلامة
برهان الدين البقاعي في تفسيره : وما يقال من أنه كان قبل
آدم ، عليه السلام ، في الأرض خلق يعصون ، قاس عليهم الملائكة حال
آدم عليه السلام -كلام لا أصل له . بل
آدم أول ساكنيها بنفسه . انتهى .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30نسبح بحمدك أي : ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ، ملتبسين بحمدك- على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30ونقدس لك أي : نصفك بما يليق بك -من العلو والعزة- وننزهك عما لا يليق بك . وقيل : المعنى نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك . كأنهم قابلوا الفساد، الذي أعظمه الإشراك بالتسبيح . وسفك الدماء الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم ، بتطهير النفس عن الآثام . لا تمدحا بذلك ، ولا إظهارا للمنة ، بل بيانا للواقع
[ ص: 97 ] تنبيهات
في وجوه فوائد من الآية
الأول : دلت الآية على
nindex.php?page=treesubj&link=33679_28783أن الله تعالى -في عظمته وجلاله- يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه ، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ، لا سيما عند الحيرة . والسؤال يكون بالمقال ، ويكون بالحال ، والتوجه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها -كالبحث العلمي ، والاستدلال العقلي ، والإلهام الإلهي- .
الثاني : إذا كان من أسرار الله تعالى ، وحكمه ، ما يخفى على الملائكة ، فنخن أولى بأن يخفى علينا ، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا . . . . . . . !
الثالث : إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم ، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل -بعد الإرشاد- إلى الخضوع والتسليم . وذلك أنه -بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون- علم
آدم الأسماء ، ثم عرضهم على الملائكة ، كما سيأتي بيانه .
الرابع : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، عن تكذيب الناس ، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان ، على إنكار ما أنكروا ، وبطلان ما جحدوا . فإذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ، ويطلبون البيان والبرهان ، فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين . أي : فعليك يا
محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين . وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها . وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب ، وكونه لا ريب فيه ؛ والرسول ، وكونه يبلغ وحي الله تعالى ، ويهدي به عباده ، واختلاف الناس فيها .
[ ص: 98 ] nindex.php?page=treesubj&link=20753ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها ، أو قريبة منها ، مع كون الجميع في سياق موضوع واحد ، -كذا في تفسير مفتي
مصر- .
ولما بين سبحانه وتعالى لهم أولا على وجه الإجمال والإبهام ، أن في الخليفة فضائل غائبة عنهم ، ليستشرفوا إليها ، أبرز لهم طرفا منها ، ليعاينوه جهرة ، ويظهر لهم بديع صنعه وحكمته ، وتنزاح شبهتهم بالكلية ، فقال :
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
[30 ]
nindex.php?page=treesubj&link=29747_31807_31808_31825_34091_34265_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً أَيْ : قَوْمًا يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ . كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَقَالَ
[ ص: 95 ] nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=62وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=60وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=169فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ : خَلِيفَةٌ مِنْكُمْ ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا سُكَّانَ الْأَرْضِ ، فَخَلَفَهُمْ فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ ، وَأَنْ يُرَادَ : خَلِيفَةٌ مِنِّي ، لِأَنَّ
آدَمَ كَانَ خَلِيفَةَ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ، وَكَذَلِكَ كَلُّ نَبِيٍّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=26إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ وَالْغَرَضُ مِنْ إِخْبَارِ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ ، هُوَ أَنْ يَسْأَلُوا ذَلِكَ السُّؤَالَ ، وَيُجَابُوا بِمَا أُجِيبُوا بِهِ ، فَيَعْرِفُوا حِكْمَتَهُ فِي اسْتِخْلَافِهِمْ قَبْلَ كَوْنِهِمْ ، صِيَانَةً لَهُمْ عَنِ اعْتِرَاضِ الشُّبْهَةِ فِي وَقْتِ اسْتِخْلَافِهِمْ ، أَوِ الْحِكْمَةُ : تَعْلِيمُ الْعِبَادِ الْمُشَاوَرَةَ فِي أُمُورِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَيْهَا ، وَعَرْضُهَا عَلَى ثِقَاتِهِمْ وَنُصَحَائِهِمْ -وَإِنْ كَانَ هُوَ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ غَنِيًّا عَنِ الْمُشَاوَرَةِ- أَوْ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْمَجْعُولِ ، وَإِظْهَارُ فَضْلِهِ ، بِأَنْ بَشَّرَ بِوُجُودِ سُكَّانِ مَلَكُوتِهِ ، وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى قَبْلَ إِيجَادِهِ ، وَلَقَّبَهُ بِالْخَلِيفَةِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ هَذَا تَعَجُّبٌ مِنْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ -لِعِمَارَةِ الْأَرْضِ وَإِصْلَاحِهَا- مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، وَاسْتِعْلَامٌ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ . أَيْ : كَيْفَ تَسْتَخْلِفُ هَؤُلَاءِ ، مَعَ أَنَّ
[ ص: 96 ] مِنْهُمْ مَنْ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ؟ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عِبَادَتَكَ ، فَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ، وَنُقَدِّسُ لَكَ -أَيْ وَلَا يَصْدُرُ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ- وَهَلَّا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْنَا ... ؟ فَقَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ "إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" أَيْ : إِنَّ لِي حِكْمَةً -فِي خَلْقِ الْخَلِيقَةِ- لَا تَعْلَمُونَهَا .
فَإِنْ قُلْتَ : مِنْ أَيْنَ عَرَفَ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ حَتَّى تَعَجَّبُوا مِنْهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ غَيْبٌ ؟ أُجِيبَ : بِأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ : إِمَّا بِعِلْمٍ خَاصٍّ ، أَوْ بِمَا فَهِمُوهُ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ . فَإِنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَخْلُقُ هَذَا الصِّنْفَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=26مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ أَوْ فَهِمُوا مِنَ "الْخَلِيفَةِ" أَنَّهُ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ، مَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَظَالِمِ ، وَيَرْدَعُهُمْ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ .
قَالَ الْعَلَّامَةُ
بُرْهَانُ الدِّينِ الْبِقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ
آدَمَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ يَعْصُونَ ، قَاسَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ حَالَ
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ -كَلَامٌ لَا أَصْلَ لَهُ . بَلْ
آدَمُ أَوَّلُ سَاكِنِيهَا بِنَفْسِهِ . انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أَيْ : نُنَزِّهُكَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِشَأْنِكَ ، مُلْتَبِسِينَ بِحَمْدِكَ- عَلَى مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ فُنُونِ النِّعَمِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا تَوْفِيقُنَا لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وَنُقَدِّسُ لَكَ أَيْ : نَصِفُكَ بِمَا يَلِيقُ بِكَ -مِنَ الْعُلُوِّ وَالْعِزَّةِ- وَنُنَزِّهُكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى نُطَهِّرُ نُفُوسَنَا عَنِ الذُّنُوبِ لِأَجْلِكَ . كَأَنَّهُمْ قَابَلُوا الْفَسَادَ، الَّذِي أَعْظَمُهُ الْإِشْرَاكُ بِالتَّسْبِيحِ . وَسَفْكَ الدِّمَاءِ الَّذِي هُوَ تَلْوِيثُ النَّفْسِ بِأَقْبَحِ الْجَرَائِمِ ، بِتَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنِ الْآثَامِ . لَا تَمَدُّحًا بِذَلِكَ ، وَلَا إِظْهَارًا لِلْمِنَّةِ ، بَلْ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ
[ ص: 97 ] تَنْبِيهَاتٌ
فِي وُجُوهِ فَوَائِدَ مِنَ الْآيَةِ
الْأَوَّلُ : دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=33679_28783أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى -فِي عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ- يَرْضَى لِعَبِيدِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ حِكْمَتِهِ فِي صُنْعِهِ ، وَمَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْرَارِهِ فِي خَلْقِهِ ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَيْرَةِ . وَالسُّؤَالُ يَكُونُ بِالْمَقَالِ ، وَيَكُونُ بِالْحَالِ ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إِفَاضَةِ الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْ يَنَابِيعِهِ الَّتِي جَرَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى بِأَنْ يَفِيضَ مِنْهَا -كَالْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ ، وَالِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ ، وَالْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ- .
الثَّانِي : إِذَا كَانَ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحِكَمِهِ ، مَا يَخْفَى عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، فَنَخْنُ أَوْلَى بِأَنْ يَخْفَى عَلَيْنَا ، فَلَا مَطْمَعَ لِلْإِنْسَانِ فِي مَعْرِفَةِ جَمِيعِ أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ وَحُكْمِهَا ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا . . . . . . . !
الثَّالِثُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَدَى الْمَلَائِكَةَ فِي حَيْرَتِهِمْ ، وَأَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ -بَعْدَ الْإِرْشَادِ- إِلَى الْخُضُوعِ وَالتَّسْلِيمِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ -بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ- عَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْمَاءَ ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ .
الرَّابِعُ : تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَنْ تَكْذِيبِ النَّاسِ ، وَمُحَاجَّتِهِمْ فِي النُّبُوَّةِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ ، عَلَى إِنْكَارِ مَا أَنْكَرُوا ، وَبُطْلَانِ مَا جَحَدُوا . فَإِذَا كَانَ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قَدْ مُثِّلُوا عَلَى أَنَّهُمْ يَخْتَصِمُونَ ، وَيَطْلُبُونَ الْبَيَانَ وَالْبُرْهَانَ ، فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ ، فَأَجْدِرْ بِالنَّاسِ أَنْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ، وَبِالْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ كَمَا عَامَلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ . أَيْ : فَعَلَيْكَ يَا
مُحَمَّدُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ ، وَتُرْشِدَ الْمُسْتَرْشِدِينَ ، وَتَأْتِيَ أَهْلَ الدَّعْوَةِ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا . وَكَوْنَ الْكَلَامِ لَا يَزَالُ فِي مَوْضُوعِ الْكِتَابِ ، وَكَوْنَهُ لَا رَيْبَ فِيهِ ؛ وَالرَّسُولِ ، وَكَوْنَهُ يُبَلِّغُ وَحْيَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَهْدِي بِهِ عِبَادَهُ ، وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهَا .
[ ص: 98 ] nindex.php?page=treesubj&link=20753وَمِنْ خَوَاصِّ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ الِانْتِقَالُ مِنْ مَسْأَلَةٍ إِلَى أُخْرَى مُبَايِنَةٍ لَهَا ، أَوْ قَرِيبَةٍ مِنْهَا ، مَعَ كَوْنِ الْجَمِيعِ فِي سِيَاقِ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ ، -كَذَا فِي تَفْسِيرِ مُفْتِي
مِصْرَ- .
وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ أَوَّلًا عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَالْإِبْهَامِ ، أَنَّ فِي الْخَلِيفَةِ فَضَائِلَ غَائِبَةً عَنْهُمْ ، لِيَسْتَشْرِفُوا إِلَيْهَا ، أَبْرَزَ لَهُمْ طَرَفًا مِنْهَا ، لِيُعَايِنُوهُ جَهْرَةً ، وَيُظْهِرَ لَهُمْ بَدِيعَ صُنْعِهِ وَحِكْمَتِهِ ، وَتَنْزَاحَ شُبْهَتُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَقَالَ :