القول في تأويل قوله تعالى:
[2] قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم
قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم أي: شرع تحليلها -وهو حل ما عقدته- بالكفارة. والتحلة مصدر بمعنى التحليل.
والله مولاكم أي: متولي أموركم وهو العليم أي: بمصالحكم الحكيم أي: في تدبيره إياكم بما شرعه وحكم به.
تنبيهات:
الأول: قال ابن قدامة في "الروضة": دلت الآية على أن حكم خطابه صلى الله عليه وسلم لا يختص به؛ لأنه لما عاتبه في تحريم ما أحل له قال عقيبه:
قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ ص: 5857 ] وابتدأ الخطاب بمناداته وحده، ثم تممه بلفظ الجمع بقوله: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء والمسألة طويلة الذيل في الأصول.
الثاني: قال تقي الدين ابن تيمية: التحلة مصدر حللت الشيء تحليلا وتحلة، كما يقال: كرمته تكريما وتكرمة، وهذا المصدر يسمى به المحلل نفسه، الذي هو الكفارة؛ فإن أريد المصدر فالمعنى: فرض الله لكم تحليل اليمين، وهو حلها الذي هو خلاف العقد.
ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كأبي بكر عبد العزيز، بهذه الآية على لأن التحلة لا تكون بعد الحنث، فإنه بالحنث ينحل اليمين، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لينحل اليمين، وإنا هي بعد الحنث كفارة، لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله. فإذا تبين أن ما اقتضت اليمين وجوب الوفاء بها، رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلا من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار. التكفير قبل الحنث؛
الثالث: شمل قوله تعالى:
" أيمانكم " تحريم الحلال المذكور قبل، وهو الزوجة، لدخوله فيه دخولا أوليا، بل كل يمين.
قال تقي الدين ابن تيمية في "فتاويه": قوله تعالى:
قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم نص عام في وذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي صلى الله عليه وسلم، مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى: فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة، لكان مخالفا للآية. كيف وهذا عام لم تخص فيه صورة واحدة، لا بنص ولا بإجماع، بل هو عام عموما معنويا، مع عمومه اللفظي؟ فإن اليمين معقود يوجب منع المكلف من الفعل، فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة، وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق، أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب: فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس، أو ليقطعن رحمه، أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها، فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه، [ ص: 5858 ] أن يبر ويصلح بين الناس، أكثر مما يجعل الله عرضة، ثم إن وفى بيمينه، كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه. وإن طلق امرأته ففي الطلاق أيضا من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه. وإن طلق امرأته، ففي الطلاق أيضا من ضرر الدنيا والدين ما لا خفاء به. وأيضا فإنه تعالى قال: كل يمين يحلف بها المسلمون، أن الله قد فرض لها تحلة. لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم وذلك يقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله، إلا والله غفور لفاعله، رحيم به، وأنه لا علة تقتضي ثبوت التحريم; لأن قوله لأي شيء استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير: لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك، والله غفور رحيم، فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له، لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال، ولا يبقى موجب المغفرة والرحمة على هذا الفاعل.
ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم حديث: ، فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله. وهذه الدلالة تنبيه على أصول «من حلف فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك» الشافعي ومن وافقهما في مسألة وأحمد فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذه الآية، وجعلوا قوله: نذر اللجاج والغضب; تحلة أيمانكم كفارة أيمانكم عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر. ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما، سواء.
فإذا قيل: المراد بالآية اليمين بالله فقط، فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين، ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام والإضافة في قوله:
عقدتم الأيمان و تحلة أيمانكم منصرفا إلى اليمين المعهودة عليهم، وهي اليمين بالله، وحينئذ فلا يعلم من اللفظ [ ص: 5859 ] إلا المعروف عندهم، والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم. ولو كان اللفظ عاما، فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة، كاليمين بالمخلوقات، فلا ونحوه؛ لأنه ليس من اليمين المشروعة لقوله: يدخل الحلف بالطلاق وهذا سؤال من يقول: كل يمين غير مشروعة، فلا كفارة لها ولا حنث. «من كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت»
فيقال: لفظ اليمين شمل هذا كله، بدليل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله. كقوله صلى الله عليه وسلم: «النذر حلف» . وقول الصحابة لمن حلف بالهدي بالعتق: كفر يمينك. وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم; ولإدخال العلماء ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: . ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال: «من حلف فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك» لم تحرم ما أحل الله لك ثم قال: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين، كما استدل به . وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل، وإما تحريمه ابن عباس مارية القبطية. وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية، وليس يمينا بالله، لهذا أفتى جمهور الصحابة، كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن مسعود وغيرهم، أن تحريم الحلال يمين مكفرة، إما كفارة كبرى كالظهار، وإما كفارة صغرى كاليمين بالله. ومازال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا. وعبد الله بن عباس
وأيضا فإن قوله:
لم تحرم ما أحل الله لك إما أن يراد به لم تحرم بلفظ الحرام، وإما لم تحرمه باليمين بالله تعالى ونحوها، وإما لم تحرمه مطلقا، فإن أريد الأول والثالث فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله تعالى، ثم فيعم، وإن أريد به تحريمه بالحلف بالله، فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال. ومعلوم أن اليمين بالله لم يوجب الحرمة الشرعية، لكن لما أوجبت [ ص: 5860 ] امتناع الحالف من الفعل، فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في قوة قوله:
لم تحرم ما أحل الله لك وحينئذ فقوله:
قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم لا بد أن يعم كل يمين حرمت الحلال؛ لأن هذا حكم ذلك الفعل، فلا بد أن يطابق صوره; لأن تحريم الحلال هو سبب قوله:
قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما؛ لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض، مع قيام السبب المقتضي للتعميم.
وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد": الذين أوجبوا كفارة اليمين بالتحريم أسعد بالنص من الذين أسقطوها؛ فإن الله سبحانه ذكر تحلة الأيمان عقيب قوله:
لم تحرم ما أحل الله لك وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض فيه تحلة الأيمان، إما مختصا به، وإما شاملا له ولغيره، فلا يجوز أن يخلى سبب الكفارة المذكورة في السياق عن حكم الكفارة، ويتعلق بغيره، وهذا ظاهر الامتناع.
وأيضا فإن المنع من فعله بالتحريم، كالمنع منه باليمين، بل أقوى; فإن اليمين، إن تضمن هتك حرمة اسمه سبحانه، فالتحريم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره، فإنه إذا شرع حلالا فحرمه المكلف، كان تحريمه هتكا لحرمة ما شرعه.
ونحن نقول: لم يتضمن الحنث في اليمين هتك حرمة الاسم، ولا التحريم هتك حرمة الشرع، كما يقوله من يقوله من الفقهاء، وهو تعليل فاسد جدا؛ فإن الحنث إما جائز، وإما واجب، أو مستحب. وما جوز الله لأحد البتة أن يهتك حرمة اسمه، وقد شرع لعباده الحنث مع الكفارة. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا حلف على يمين، ورأى غيرها خيرا منها كفر عن يمينه، وأتى [ ص: 5861 ] المحلوف عليه. ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يبح في شريعة قط، وإنما الكفارة كما سماها الله تعالى، تحلة، وهي تفعلة من الحل، فهي تحل ما عقد به اليمين ليس إلا. وهذا العقد، كما يكون باليمين، يكون بالتحريم. وظهر سر قوله تعالى:
قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم عقيب قوله:
لم تحرم ما أحل الله لك
وقال رحمه الله فيه، قبل: أما من قال: إنه يمين مكفرة بكل حال، فمأخذ قوله أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمين يكفر بالنص والمعنى وآثار الصحابة؛ فإن الله سبحانه قال:
يا أيها النبي لم تحرم الآية... ولا بد أن يكون تحريم الحلال داخلا تحت هذا الفرض؛ لأنه سببه، وتخصيص محل السبب من جملة العام، ممتنع قطعا; إذ هو المقصود بالبيان أولا، فلو خص لخلا سبب الحكم عن البيان، وهو ممتنع. وهذا استدلال في غاية القوة، فسألت عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال: نعم! التحريم يمين كبرى في الزوجة، كفارتها كفارة الظهار، ويمين صغرى فيما عداها، كفارتها كفارة اليمين بالله. قال: وهذا معنى قول وغيره من الصحابة ومن بعدهم: إن التحريم يمين يكفر. ابن عباس
وقال رحمه الله في "أعلام الموقعين": لا يجوز أن يفرق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظ لم يوضع للطلاق ولا نواه، وتلزمه كفارة يمين حرمه لشدة اليمين؛ إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد، ولا هي من لغو اليمين، وهي يمين منعقدة، ففيها كفارة يمين.
ثم قال في المذهب الثالث عشر: إنه يمين يكفره ما كفر اليمين على كل حال، صح ذلك أيضا عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي ، وخلق [ ص: 5862 ] سواهم رضي الله عنهم. وحجة هذا القول ظاهر القرآن؛ فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله يقينا، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله. وأبي ثور
وقال في "زاد المعاد": لا فرق بين التحريم -في غير الزوجة- بين الأمة وغيرها عند الجمهور، إلا وحده؛ فإنه أوجب في تحريم الأمة خاصة، كفارة اليمين؛ إذ التحريم له تأثير في الأبضاع عنده، دون غيرها: وأيضا فإن سبب نزول الآية تحريم الجارية، فلا يخرج محل السبب عن الحكم، ويتعلق بغيره. ومنازعوه يقولون: النص علق فرض تحلة اليمين بتحريم الحلال، وهو أعم من تحريم الأمة وغيرها، فتجب الكفارة حيث وجد سببها. وقد تقدم تحريره. الشافعي