القول في تأويل قوله تعالى :
[ 123 ] ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون لما ذكر تعالى قصة أحد أتبعها بذكر بدر . وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الضعف عددا وعددا ، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة . ثم إنه تعالى نصر المسلمين على الكافرين ، فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن ثمرة التوكل عليه تعالى والصبر والتقوى هو النصر والمعونة والتأييد . قصة و ( بدر ) موضع بين الحرمين ، إلى المدينة أقرب ، يقال هو منها على ثمانية وعشرين فرسخا . أو اسم بئر هناك ، حفرها رجل اسمه بدر، وقوله : لعلكم تشكرون أي : راجين أن تشكروا ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصرته . وقد أشير في مواضع من التنزيل إلى غزوة بدر ، وكانت في شهر رمضان ، السنة الثانية من الهجرة . وكان سـببها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن عيرا لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكة . معها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش ، عميدهم ، ومعه أبو سفيان عمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل .
فندب - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه العير . وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج . ولم يحتفل في الحشد ، لأنه لم يظن قتالا . وخرج مسرعا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، لم يكن معهم من الخيل إلا فرسان ، وكان معهم سبعون بعيرا يتعقبونها . واتصل خروجه فاستأجر بأبي سفيان ، ضمضم بن عمرو الغفاري ، وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم . فنفروا وأوعبوا . وخرج - صلى الله عليه وسلم - لثمان خلون من رمضان ، واستخلف على الصلاة ورد عمرو بن أم مكتوم ، أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ، ودفع اللواء إلى ودفع إلى [ ص: 961 ] مصعب بن عمير ، راية ، وإلى رجل من علي الأنصار راية أخرى ، يقال : كانتا سوداوين . وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة . وراية الأنصار يومئذ مع فسلكوا نقب سعد بن معاذ ، المدينة إلى ذي الحليفة ، ثم انتهوا إلى صخيرات يمام ، ثم إلى بئر الروحاء ، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء . وبعث - صلى الله عليه وسلم - قبلها بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر ، يتجسسان أخبار وعيره ، ثم تنكب عن الصفراء يمينا ، وخرج على أبي سفيان وادي دقران ، فبلغه خروج قريش ونفيرهم ، فاستشار أصحابه ، فتكلم المهاجرون ، وأحسنوا ، وهو يريد ما يقول الأنصار ، وفهموا ذلك ، فتكلم وكان فيما قال : لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله . فسر بذلك ، وقال : « سيروا وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين » . سعد بن معاذ ،
ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر ، وبعث عليا والزبير في نفر يلتمسون الخبر . فأصابوا غلامين وسعدا لقريش ، فأتوا بهما ، وهو - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي ، وقالوا : نحن سقاة قريش ، فكذبوهما ، كراهية في الخبر ، ورجاء أن يكونا من العير للغنيمة وقلة المؤنة ، فجعلوا يضربونهما فيقولان : نحن من العير . فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنكر عليهم ، وقال للغلامين : أخبراني أينقريش ؟ فأخبراه أنهم وراء الكثيب وأنهم ينحرون يوما عشرا من الإبل ويوما تسعا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : « القوم ما بين التسعمائة والألف » .
وقد كان بسبس مضيا يتجسسان ولا خبر ، حتى نزلا وأناخا قرب الماء ، واستقيا في شن لهما ، وعدي ومجدي بن عمرو من جهينة يقربهما . فسمع عدي جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها : العير تأتي غدا أو بعد غد ، وأعمل لهم وأقضيك الذي لك ، وجاءت إلى مجدي بن عمرو ، فصدقها . فرجع بسبس بالخبر . وجاء وعدي بعدهما يتجسس الخبر . فقال أبو سفيان لمجدي : هل أحسست أحدا ؟ فقال : راكبين أناخا يميلان لهذا التل ، فاستقيا الماء ونهضا . فأتى مناخهما . وفتت من أبعار رواحلهما . فقال : هذه - والله - علائف أبو سفيان يثرب . فرجع سريعا وقد حذر ، وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا . وأوصى إلى قريش بأنا قد نجونا بالعير فارجعوا .
فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، ونقيم به ثلاثا ، وتهابنا العرب أبدا ، [ ص: 962 ] ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة ، وكان حليفهم ومطاعا فيهم ، وقال : إنما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت ، فارجعوا . وكان بنو عدي لم ينفروا مع القوم ، فلم يشهد بدرا من قريش عدوي ولا زهري . وسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا إلى ماء بدر ، وثبطهم عنه مطر نزل وبله مما يليهم ، وأصاب مما يلي المسلمين دهس الوادي ، وأعانهم على السير . فنزل - صلى الله عليه وسلم - على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة ، فقال له الحباب بن المنذر : آلله أنزلك بهذا المنزل فلا نتحول عنه ، أم قصدت الحرب والمكيدة ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : « لا بل هو الرأي والحرب » . فقال : يا رسول الله ! ليس هذا بمنزل ، وإنما نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونبني عليه حوضا ، ونملؤه ونغور القلب كلها ، فنكون قد منعناهم الماء ، فاستحسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ثم بنوا عريشا على تل مشرف على المعركة يكون فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتيه النصر من ربه ، ومشى يريهم مصارع القوم واحدا واحدا .
ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحي يحزر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحزرهم وانصرف وخبرهم الخبر . ورام حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش ، ولا يكون الحرب ، فأبى أبو جهل ، وساعده المشركون ، وتواقفت الفئتان ، وعدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفوف بيده ، ورجع إلى العريش ، ومعه وحده ، وطفق يدعو ويلح ، أبو بكر يقاوله . ويقول في دعائه : اللهم ! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، اللهم ! أنجز لي ما وعدتني . وأبو بكر
وقوم معه من وسعد بن معاذ الأنصار على باب العريش يحمونه ، وأخفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انتبه ، فقال : أبشر يا فقد أتى نصر الله . ثم خرج يحرض الناس . ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول : شاهت الوجوه . ثم تزاحفوا ، فخرج أبا بكر ! عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون البراز ، فخرج إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب فقتل وعلي بن أبي طالب ، حمزة وعلي شيبة والوليد ، وضرب عتبة عبيدة ، فقطع رجله فمات ، وجاء حمزة إلى وعلي عتبة فقتلاه ، [ ص: 963 ] وقد كان برز إليهم عوف ومعاذ ابنا عفراء من وعبد الله بن رواحة الأنصار فأبوا إلا قومهم . وجال القوم جولة ، فهزم المشركون . وقتل منهم يومئذ سبعون رجلا . وأسر سبعون . واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا . ثم انجلت الحرب ، وانصرف إلى المدينة ، وقسم الغنائم في الصفراء ، ودخل المدينة لثمان بقين من رمضان ، وبسط القصة في السـير . ومن أبدعها سياقا وفقها ( زاد المعاد ) فليرجع إليه .