حكى المفسرون هنا رواية عن أن ابن عباس في جماعة من الصحابة [ ص: 1400 ] المهاجرين، وأنهم كانوا يلقون من مشركي هذه الآية نزلت مكة قبل الهجرة أذى شديدا، فيشكون ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولوا: ائذن لنا في قتالهم، فيقول لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثم بعد الهجرة إلى كفوا أيديكم، فإني لم أومر بقتالهم، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة المدينة لما أمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم، فنزلت الآية.
وعندي أن هذه الآية كسوابقها نزلت في المنافقين؛ تقريعا لهم وتحذيرا للمخلصين من شاكلتهم، والقول بنزولها في بعض المؤمنين لا يصح لوجوه:
منها: أن في إسنادها عن من ليس على شرط الصحيح. ابن عباس
ومنها: أن طلبهم للجهاد وهم في مكة مع قلة العدد والعدد، وممالأة العدو عليهم من كل جانب - في غاية البعد.
ومنها: أن السياق في المنافقين، وقد ابتدئ الكلام في شأنهم من قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت إلى قوله تعالى الآتي : فلا تتخذوا منهم أولياء الآية، كما يظهر من التدبر الصادق.
ومنها: أن هذا السياق اشتمل على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين؛ لأنه تعالى قال في وصفهم: يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ولا يكون هذا الوصف إلا لكافر أو منافق، وحكى تعالى عنهم أنهم قالوا: وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ولم يعهد هذا عن المؤمنين، بل المحفوظ مبادرتهم للجهاد، كما روى في "السيرة" ابن إسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استشار الناس في غزوة بدر، فقام فقال وأحسن، ثم قام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون [المائدة: من الآية 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
[ ص: 1401 ] ثم قال امض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء. سعد بن معاذ:
ومنها أنه تعالى ذكر بعد ذلك قوله: وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك [النساء: من الآية 78]، ولا شك أن هذا من كلام المنافقين، ثم صرح تعالى في آخر الكلام عليهم بقوله: فما لكم في المنافقين فئتين فزال اللبس وبرح الخفاء.
وما أشبه هذه الآيات بقوله تعالى في (سورة محمد): ويقول الذين آمنوا لولا نـزلت سورة أي: تأمرنا بالجهاد: فإذا أنـزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك إلى قوله: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم [محمد: 29].
وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال أي: الجهاد في سبيلك لولا أخرتنا إلى أجل قريب أي: هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت بآجالنا قل أي: تزهيدا لهم فيما يؤملون بالقعود من المتاع الفاني، وترغيبا فيما ينالونه بالجهاد من النعيم الباقي متاع الدنيا أي: ما يتمتع وينتفع به في الدنيا قليل سريع التقضي، وشيك الانصرام، وإن أخرتم إلى ذلك الأجل.
والآخرة أي: ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالجهاد خير أي: لكم من ذلك المتاع الفاني لكثرته وعدم انقطاعه، وصفائه عن الكدورات، وإنما قيل: لمن اتقى حثا لهم على اتقاء العصيان والإخلال بموجب التكليف ولا تظلمون فتيلا عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي: [ ص: 1402 ] تجزون ولا تنقصون أدنى شيء من أجور أعمالكم التي من جملتها مسعاكم في شأن القتال، فلا ترغبوا عنه.
(والفتيل) ما في شق النواة من الخيط، يضرب به المثل في القلة والحقارة.
وقرئ: " يظلمون " بالياء؛ إعادة للضمير إلى ظاهر (من) أفاده أبو السعود .
روى قال: قرأ ابن أبي حاتم : قل متاع الدنيا قليل، قال: رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك، وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه، وقال الحسن ابن معين : كان أبو مصهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب فإن تعجب الدنيا رجالا فإنها
متاع قليل والزوال قريب
ثم بين تعالى أنه لا ينفعهم الفرار من الموت؛ لأنه لا خلاص لهم منه، بقوله: