القول في تأويل قوله تعالى:
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا [97]
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم روى ، عن البخاري [ ص: 1487 ] أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، ابن عباس إن الذين توفاهم الآية. فأنزل الله:
وأخرجه وسمى منهم (في روايته) ابن مردويه، قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة، وعمرو بن أمية بن سفيان، وعلي بن أمية بن خلف، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا: غر هؤلاء دينهم، فقتلوا ببدر.
وأخرجه ، وزاد: منهم ابن أبي حاتم الحارث بن زمعة بن الأسود، والعاص بن منبه بن الحجاج.
وأخرج ، الطبراني قال: كان قوم ابن عباس بمكة قد أسلموا، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كرهوا أن يهاجروا وخافوا، فأنزل الله: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى قوله: إلا المستضعفين . عن
وأخرج ابن المنذر ، عن وابن جرير قال: كان قوم من أهل ابن عباس مكة قد أسلموا، وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين، فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: إن الذين توفاهم الملائكة الآية، فكتبوا بها إلى من بقي منهم، وإنه لا عذر لهم فخرجوا، فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا، فنزلت: ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله [العنكبوت: من الآية 10] فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا، فنزلت: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا [النحل: من الآية 110] الآية، فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا، فلحقوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل.
[ ص: 1488 ] وأخرج من طرق كثيرة نحوه، كذا في "لباب النقول". ابن جرير
قال المهايمي : ولما أوهم ما فهم مما تقدم من تساوي القاعدين أولي الضرر والمجاهدين أن من قعد عن الجهاد لكونه في دار الكفر محسوب منهم، وإن عجز عن إظهار دينه، فإن لم يحسب فلا أقل من أن يحسب من القاعدين غير أولي الضرر، الموعود لهم الحسنى - أزيل ذلك الوهم بأنهم بترك الهجرة من مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم، مع إمكان الخروج عنه، صاروا ظالمين مستحقين لتوبيخ الملائكة، بل لعذاب جهنم، فقال: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم أي: في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة عن مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم مع القدرة عليها وبموافقة الكفار.
و(توفاهم) يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ: (توفتهم) ومضارعا بمعنى تتوفاهم، بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، كذا في "الكشاف".
و(الظلم) قد يراد به الكفر كقوله تعالى: إن الشرك لظلم عظيم [لقمان: 13] وقد يراد به المعصية كقوله: فمنهم ظالم لنفسه [فاطر: 32] ويصح إرادة المعنيين هنا كما أشرنا.
روى عن أبو داود، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: سمرة بن جندب . من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله
قالوا أي: الملائكة للمتوفين؛ تقريرا بتقصيرهم وتوبيخا لهم فيم كنتم أي: في أي شيء كنتم من أمور دينكم قالوا كنا مستضعفين في الأرض أي: أرض الأعداء.
قال : كيف صح وقوع قوله: الزمخشري كنا مستضعفين في الأرض جوابا عن قولهم: فيم كنتم وكان حق الجواب: كنا في كذا [ ص: 1489 ] أو لم نكن في شيء؟ قلت: معنى: فيم كنتم التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به، واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء، فبكتتهم الملائكة بقولهم: قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها أرادوا: إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة ، وهذا دليل على أن كما يجب لبعض الأسباب - والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر - أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة - حقت عليه المهاجرة. انتهى. الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه
فأولئك أي: النفر المذكور مأواهم أي: مصيرهم جهنم لأنهم الذين ضعفوا أنفسهم إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنة ديارهم وساءت مصيرا أي: جهنم، بدل المصير إلى دار الهجرة، ثم استثنى سبحانه من أهل الوعيد ما بينه بقوله تعالى: