تنبيه:
يحسن في هذا المقام إيراد ؛ فإنها من أعظم مسائل الدين، وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين، واضطربت فيها الأقوال، وكثرت بسببها الأهوال، وأثارت فتنا، وجلبت محنا، وكم سجنت إماما، وبكت [ ص: 1724 ] أقواما، وتشعبت فيها المذاهب، واختلفت فيها المشارب، ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة، المقتفين لأثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم. عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام
فنقول: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية - عليه رحمة الرحيم السلام - في كتابه إلى جماعة العارف ما نصه: عدي بن مسافر
فصل
ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن منه بدا وإليه يعود، هكذا قال غير واحد من السلف. القرآن كلام الله منزل غير مخلوق،
روي عن ، عن سفيان بن عيينة - وكان من التابعين الأعيان - قال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك: القرآن الذي أنزله الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره - وإن تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم - فإن الكلام لمن قاله مبتدئا، لا لمن قاله مبلغا مؤديا، قال الله تعالى: عمرو بن دينار وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة: 6] وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى: بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [البروج: 21 - 22] وقال تعالى: يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة [البينة: 2 - 3] وقال: إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون [الواقعة: 77 - 78].
والقرآن: كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه. كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [ ص: 1725 ] . من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات
وقال أبو بكر - رضي الله عنهما -: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. وعمر
ثم قال رحمه الله: والتصديق بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله يتكلم بصوت وينادي آدم - عليه السلام - بصوت، إلى أمثال ذلك من الأحاديث، فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة.
وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق؛ حيث تلي، وحيث كتب، فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن: إنها مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال: غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد، ولم يقل أحد قط من أئمة السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على على من قال: ( لفظ العبد بالقرآن مخلوق).
وأما من قال: إن المداد قديم - فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة، قال الله تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا [الكهف: 109] فأخبر أن المداد يكتب به كلماته.
وكذلك من قال: (ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق وحكاية وعبارة) فهو مبتدع ضال، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو ما بين الدفتين، والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء.
وكذلك من زاد على السنة فقال: إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة - مبتدع ضال، كمن قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت - فإنه أيضا مبتدع منكر للسنة، وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم - فهو ضال، كمن قال: ليس في المصاحف كلام الله.
وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون: إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط كلام الله - فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه، هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة.
وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة، نفيا وإثباتا، وإنما حدثت [ ص: 1726 ] هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل.
فإن من قال: إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به قديم - فهو ضال جاهل.
ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن - فهو ضال مبتدع.
بل الواجب أن يقال: هذا القرآن العربي هو كلام الله، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها، كما دخلت معانيه، ويقال: وما بين اللوحين جميعه كلام الله، فإن كان المصحف منقوطا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله، فإن كان غير منقوط ولا مشكول - كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة - كان أيضا ما بين اللوحين هو كلام الله، فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي لا حقيقة له، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت، وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت، وقال أحدهما: النقط التي في المصحف والشكل من القرآن، وقال الآخر: ليس ذلك من القرآن، فما الصواب في ذلك؟
فأجاب - رضي الله عنه -: الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس، ويخلطون الحق بالباطل، فالذي قال: إن ، إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله، الذي نزل به الروح الأمين على القرآن حرف وصوت محمد خاتم النبيين والمرسلين، وأن جبرئيل سمعه من الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبرئيل ، والمسلمون سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: قل نـزله روح القدس من ربك بالحق [النحل: 102] وقال: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق [الأنعام: 114] - فقد أصاب في ذلك.
[ ص: 1727 ] فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.
ومن قال: إن القرآن العربي لم يتكلم الله به، وإنما هو كلام جبرئيل أو غيره، عبر به عن المعنى القائم بذات الله، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما - فهو قول باطل من وجوه كثيرة.
فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات، وإن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وإنه لا يتعدد ولا يتبعض، وإنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وبالعبرانية كان توراة، وبالسريانية كان إنجيلا، فيجعلون معنى آية الكرسي وآية الدين، و: قل هو الله أحد [الإخلاص: 1] و: تبت يدا أبي لهب [المسد: 1] والتوراة والإنجيل وغيرهما - معنى واحدا، وهذا قول فاسد بالعقل والشرع، وهو قول أحدثه ابن كلاب ، لم يسبقه إليه غيره من السلف.
وإن أراد قائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي - أخطأ وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فبين أن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام الباري، كما قال تعالى: زينوا القرآن بأصواتكم وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة: 6].
فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون [ ص: 1728 ] كلام الله لا كلام غيره، كما ذكر الله ذلك.
وفي السنن عن قال: جابر بن عبد الله قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي . إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض نفسه على الناس في الموقف فقال: ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن
قالوا لما قرأ عليهم: لأبي بكر الصديق الم غلبت الروم هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله تعالى.
والناس إذا بلغوا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: - يعلمون أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه، والمحدث بلغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فالقرآن أولى أن يكون كلام الله، إذا بلغته الرسل عنه، وقرأه الناس بأصواتهم، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه، ونادى إنما الأعمال بالنيات موسى بصوت نفسه، كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب، ولا مثل صوته، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وقد نص أئمة الإسلام - ومن قبله من الأئمة - على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله ينادي بصوت، وإن القرآن كلامه تكلم بحروف وصوت، ليس منه شيء كلاما لغيره، لا أحمد جبرئيل ولا غيره، وأن العباد يقولونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ، والكلام كلام الباري.
وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز [ ص: 1729 ] بين صوت العبد وصوت الرب، بل يجعل هذا هو هذا، فينفيهما جميعا، ويثبتهما جميعا، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربي كلام الله، وأن يكون مناديا لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله، كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا، لا فرق بين القديم والحادث، وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل؛ حيث جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا لا حقيقة له عند التحقيق، وإذا أثبت جعل صوت الرب هو صوت العبد، أو سكت عن التمييز بينهما، مع قوله: إن الحروف متعاقبة في الوجود، مقترنة في الذات، قديمة أزلية الأعيان، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد، ويتحد بصفته، فقال في نوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل.
وقد علم أن نفي الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته - خطأ وضلال، لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - حروفه ومعانيه، وأنه ينادي عباده بصوته، ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد، وعلى أنه ليس بشيء من أصوات العباد، ولا مداد المصاحف قديما، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين، مقروء بألسنتهم، محفوظ بقلوبهم، وهو كلام الله، والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط؛ لأنهم كانوا عربا لا يلحنون، ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها.
فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز، وإن كتبت بنقط وشكل جاز، ولم يكره في أظهر قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وحكم النقط والشكل حكم الحروف، فإن الشكل يبين إعراب القرآن، كما يبين النقط الحروف، والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق، وكلام الله العربي الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط - ليس بمخلوق، وحكم الإعراب حكم الحروف، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه، بل هو تابع للحروف المنقوطة، والشكل والنقط لا يستقل بنفسه، بل هو تابع للحروف [ ص: 1730 ] المرسومة، فلهذا لا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام، بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله: معانيه وحروفه وإعرابه.
والله تكلم بالقرآن العربي الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله، وهو القرآن العربي الذي أنزل على نبيه، سواء كتب بشكل ونقط أو بغير شكل ونقط، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل، غير مخلوق، والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين؛ لأن كلام الله مكتوب فيها، واحترام النقط والشكل - إذا كتب المصحف مشكلا منقوطا - كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين، كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين.
ولهذا قال أبو بكر وعمر: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه، فجميعه كلام الله.
فلا يقال: بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله، وهو سبحانه نادى موسى بصوت سمعه موسى ، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن، كما قال تعالى: هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى [النازعات: 15 - 16] والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة، وقد قال تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [النساء: 163 - 164] فقد فرق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى، فمن قال: إن موسى لم يسمع صوتا بل ألهم معناه - لم يفرق بين موسى وغيره، وقد قال تعالى: [ ص: 1731 ] تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات [البقرة: 253] وقال تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم [الشورى: 51] فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب، كما كلم الله موسى، فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالا.
وقد قال - رحمه الله - وغيره: لم يزل الله متكلما إذا شاء، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتكلم بشيء بعد شيء، كما قال تعالى: الإمام أحمد فلما أتاها نودي يا موسى [طه: 11] فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك، وقال تعالى: فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين [الأعراف: 22] فهو سبحانه ناداهما حين ذاقا الشجرة، ولم ينادهما قبل ذلك، وكذلك قال تعالى: ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم [الأعراف: 11] بعد أن خلق آدم وصوره، ولم يأمرهم قبل ذلك، وكذا قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [آل عمران: 59] فأخبر أنه قال له: كن فيكون [آل عمران: 59] [ ص: 1732 ] بعد أن خلقه من تراب.
ومثل هذا الخبر في القرآن كثير، يخبر أنه تكلم في وقت معين، ونادى في وقت معين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الصفا والمروة من شعائر الله [البقرة: 158] قال: نبدأ بما بدأ الله به فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة. أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى:
والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين.
ثم قالت طائفة: هو معنى واحد، وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي، والخبر بكل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهذا القول مخالف للشرع والعقل.
وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان، لازمة لذات الله، لم تزل لازمة لذاته، وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معا، أزلا وأبدا، لم تزل ولا تزال، لم يسبق منها شيء شيئا، وهذا أيضا مخالف للشرع والعقل.
وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه في الأزل كان متكلما بالنداء الذي سمعه موسى ، وإنما تجدد استماع موسى ، لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى، ولكن تلك الساعة سمع النداء، وهؤلاء وافقوا الذين قالوا: إن القرآن مخلوق في أصل قولهم، فإن أصل قولهم: إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية، فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته، وقالوا: هذه حوادث، والرب لا تقوم به الحوادث، فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول.
[ ص: 1733 ] واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم، وأخطأوا في ذلك، فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا، وادعوا أن الرب لم يكن قادرا في الأزل على كلام يتكلم به، ولا فعل يفعله، وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا، بغير أمر حدث، أو يغيرون العبارة فيقولون: لم يزل قادرا، لكن يقولون: إن المقدور كان ممتنعا، وإن الفعل صار ممكنا له، بعد أن صار ممتنعا عليه، من غير تجدد شيء، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا: كان قادرا في الأزل على ما يمكن، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين؛ حيث يثبتونه قادرا في حال كون المقدور عليه ممتنعا عندهم، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل، وبين عينيه كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا، بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه، فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول.
فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم، بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث، بعد أن لم يكن، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته، كما تدل على ذلك الدلائل القطعية، والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازما، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازما لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة، فكيف بالفاعل بالإرادة؟! وما يذكر بأن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط، بل قد يقارنه، كما تقارن الحياة العلم، وأما ما كان فاعلا - سواء سمي علة أو لم يسم - فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين. والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين. وقول القائل (حركت يدي فتحرك الخاتم) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين.
ولأنه لو كان العالم قديما لكان فاعله موجبا بذاته في الأزل، ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شيئا من الحوادث، وهذا خلاف المشاهدة، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرا على الكلام والفعل، بل لم يزل متكلما [ ص: 1734 ] إذا شاء، فاعلا لما يشاء، ولم يزل موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب، وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته، وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى، مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته - فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود، لا نقص فيه، منزه عن كل نقص، وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل، منزه فيها عن التشبيه والتمثيل، ومنزه عن النقائص مطلقا، فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة، لا يستفيده من غيره، بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء، وما جعله فيهم من صفات الأحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها.
وأصل اضطراب الناس في أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم - اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثا؛ بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده، والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام، بل كان ذلك ممتنعا عليه، وكان معطلا عن ذلك، وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرا في الأزل على الفعل فيما لا يزال، مع امتناع الفعل عليه في الأزل، فيجمعون بين النقيضين؛ حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته. إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أولا، والأزل لا أول له، والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين، ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين والمفعول المعين، وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام، بل هذا يكون دائما، وإن كان كل من آحاده حادثا كما يكون دائما في المستقبل، وإن كان كل من آحاده فانيا بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائما، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل، ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك، لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة، كابن سينا [ ص: 1735 ] وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديما واجب الوجود بغيره، فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء، مع مخالفتهم لسلفهم، أرسطو وأتباعه، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك، وإن قالوا بقدم الأفلاك، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين؛ بناء على إثبات علة غاية لحركة الفلك، بتحرك الفلك للنسبة بها، لم يثبتوا له فاعلا مبتدعا، ولم يثبتوا ممكنا قديما واجبا بغيره. مسألة كلام الله
وهم - وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم - فهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما كان ممكنا بذاته فلا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم، فاحتاجوا أن يقولوا: كلامه مخلوق منفصل عنه.
وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له، لكن قالوا: تقوم به الأمور الاختيارية، فقالوا: إنه في الأزل لم يكن متكلما، بل ولا كان الكلام مقدورا له، ثم صار متكلما بلا حدوث حادث، بكلام يقوم به، وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم.
وطائفة قالت: إذا كان القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين، لازما لذات الرب، فلا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم منهم من قال: هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض، ومنهم من قال: إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات، وهؤلاء أيضا وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته، وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض، ولن يأتي يوم القيامة، ولم يناد موسى حين ناداه، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات، ولا تفرحه توبة التائبين، وقالوا في قوله: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون [التوبة: 105] ونحو ذلك: أنه لا يراها إذا وجدت، بل إما أنه لم يزل رائيا لها، وإما أنه لم يتجدد شيء موجود، بل تعلق معدوم.
إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة، مع مخالفة صريح العقل، والذي ألجأهم لذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم: في أنه سبحانه [ ص: 1736 ] لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام، وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله متكلما إذا شاء، ثم افترقوا أحزابا أربعة كما تقدم: الخلقية، والحدوثية، والاتحادية والاقترانية.
وشر من هؤلاء الصائبة والفلاسفة الذين يقولون: إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته، لا قديم النوع ولا قديم العين، ولا حادث ولا مخلوق، بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء، ويقولون: إنه كلم موسى من سماء عقله.
وقد يقولون: إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات، فإنه إنما يعلمها على وجه كلي، ويقولون - مع ذلك -: إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله، وقولهم: (يعلم نفسه ومفعولاته) حق، كما قال تعالى: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 14] لكن قولهم مع ذلك: (إنه لا يعلم الأعيان المعينة) جهل وتناقض، فإن نفسه المقدسة معينة، والأفلاك معينة، وكل موجود معين، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئا من الموجودات، إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وهم إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للباري تعالى، إن هؤلاء يقولون: إن الحوادث تقوم بالقديم، وإن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن الباري؛ لاعتقادهم أنه لا صفة له، بل هو وجود مطلق، وقالوا: إن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر، والعلم والعالم شيء واحد، والمريد والإرادة شيء واحد، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، وجعلوا الصفات هي الموصوف.
ومنهم من يقول: بل العلم كل المعلوم، كما يقوله الطوسي صاحب "شرح الإشارات" فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه، وابن سينا أقرب إلى الصواب، لكنه تناقض مع ذلك؛ حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف، وكل صفة هي الأخرى، ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول: معاني الكلام شيء واحد.
لكنهم [ ص: 1737 ] ألزموا قولهم لأولئك فقالوا: إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئا واحدا جاز أن يكون العلم هو القدرة، والقدرة على الإرادة، فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه، ثم قالوا: وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى جاز أن تكون الصفة هي الموصوف.
فجاء ابن عربي وابن سبعين والقونوي ونحوهم فقالوا: إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، والصفة هي الموصوف - جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق.
فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق، وقالوا: الوجود واحد، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع، وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد، الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه، وقالوا: هو يتكلم بحرف وصوت قديم - قالوا أولا: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إني أنا الله رب العالمين كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودا في الأزل، يقارن بعضها بعضا، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله. ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء.
وقال بعضهم: بل المسموع صوتان: قديم ومحدث. وقال بعضهم: أشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزلي. وحكي عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزلي.
وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم، ولا يفهمون معناه، بل منهم من يظن أنه قديم في علمه، ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق، ومنهم من لا يميز بين ما يقول، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات. ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل.
والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنه [ ص: 1738 ] سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى، لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم، وقدرته لا تماثل قدرتهم، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال - باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات – باطلة.
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، وقد بسطناها في "الواجب الكبير" والله أعلم بالصواب.
(وقال تقي الدين أيضا في مقالة له في هذا البحث): أول من أظهر إنكار التكليم والمخالة الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، وأمر علماء الإسلام وغيره بقتله، فضحى به كالحسن البصري خالد بن عبد الله القسري ، أمير العراق بواسط، فقال: أيها الناس ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح ، إنه زعم أن الله لم يتخذ بالجعد بن درهم إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه.
وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان، فأنكر أن يكون الله يتكلم، ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام، وقال: كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر، ودخل بعض أهل الكلام أو الجدل - من المنتسبين إلى الإسلام من المعتزلة ونحوهم - في بعض مقالة الصابئة والمشركين، متابعة للجعد والجهم.
وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين: منهم من يقول: إن السماوات مخلوقة بعد أن لم تكن، كما أخبرت بذلك الرسل وكتب الله تعالى. ومنهم من ابتدع فقال: بل هي قديمة أزلية، لم تزل موجودة بوجود الأول واجب الوجود بنفسه، ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية، ولهم مقالات كثيرة الاضطراب في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد؛ لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل من الله تعالى [ ص: 1739 ] يجمعهم، والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور، التي تعجز الآراء عن درك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى.
وهم إنما يناظر بعضهم بعضا بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية، وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء والهواء والحيوان والمعدن والنبات، ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله، وعلم ما فوق السماوات، أول الأمر وآخره، وهذا غلط بين، اعترف أساطينهم بأن هذا غير ممكن، وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين، وأنهم إن يتبعون إلا الظن.
فلما كان حال هذه الصائبة المبتدعة الضالة ومن أضلوه من اليهود والنصارى، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهتد بهدى الله الذي بعث به رسله من أهل الكلام والجدل - صاروا يريدون أن يأخذوا مآخذهم، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا فارس والروم؟
فاحتجوا على بنحو من مسالك هذه الصابئة، وهو الكلام في الأجسام والأعراض، بأن تثبت الأعراض، ثم يثبت لزومها للأجسام، ثم حدوثها، ثم يقال: ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم. فلما رأوا أن الأعراض التي هي الصفات تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض - التزموا نفيها عن الله؛ لأن ثبوتها مستلزم حدوثه، وبطلان دليل حدوث العالم الذي اعتقدوا أن لا دليل سواه، بل ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به - [ ص: 1740 ] معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم، وبأن النبوة كمال يفيض على نفس النبي؛ لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقا وأتبع للأدلة العقلية والسمعية؛ لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن، وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسل، لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها، فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم. حدوث العالم
كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات، ورأوا أن إثباته متكلما يقتضي أن يكون جسما، والجسم حادث؛ لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف، بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره؛ لأنه يفتقر من المخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره، ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره، ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم، والقرآن مملوء من إثبات ذلك - صاروا تارة يقولون: متكلم مجازا لا حقيقة، وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة، قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود، ثم إنهم رأوا هذا شنيعا فقالوا: بل هو متكلم حقيقة.
وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع، وليس عندهم كذلك، بل حقيقة قولهم وأصله عند من عرفه وابتدعه: إن الله ليس بمتكلم، وقالوا: المتكلم من فعل الكلام، ولو في محل منفصل عنه، ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم، لا حقيقة ولا مجازا، وهذا قول من يقول: القرآن مخلوق. وهو أحد قولي الصابئة الذين يوافقون الرسل في حدوث العالم، وهو وإن كفر بما جاءت به الرسل فليس هو في الكفر مثل القول الأول، لأن هؤلاء لا يقولون: إن الله أراد أن يبعث رسولا معينا، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه، وأنكروا أن يكون متكلما على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة.
ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة وبين المؤمنين أتباع الرسل - الخلاف، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم، واختلفوا في كتاب الله، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم من أن الله تكلم بالقرآن، وأنه [ ص: 1741 ] كلم موسى تكليما، وأنه يتكلم، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الأولون، بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان، الذي علموا به مراد الرسل من إخبارهم برسالة الله وكلامه. وتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء، وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى.
حتى كان إمام المسلمين يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وكان قد كثر ظهور هؤلاء الذين هم فروع المشركين، ومن اتبعهم من مبدلة الصابئين، ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية وأوائل الثالثة، في إمارة ابن المبارك أبي العباس الملقب بالمأمون بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين، الذين كانوا قبل النصارى، ومن أشبههم من فارس والهند ، وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم.
وقد تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين، كما يقال: المعتزلة مخانيث الفلاسفة. فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام، وفي أهل السيف والإمارة، وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء - ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولم يبدلوا ويبتدعوا، وذلك لقصور وتفريط من أكثرهم في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول وأتباعه.