القول في تأويل قوله تعالى:
[42] سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين
سماعون للكذب أي: بالباطل. خبر لمحذوف. وكرر تأكيدا لما قبله وتمهيدا لقوله: أكالون للسحت أي: الحرام. وهو الرشوة كما قال ابن مسعود.
قال السحت كل ما لا يحل كسبه. وهو من (سحته) إذا استأصله. [ ص: 1992 ] لأنه مسحوت البركة. كما قال تعالى: الزمخشري: يمحق الله الربا والربا باب منه. وقرئ: (السحت) بالتخفيف والتثقيل، و (السحت) بفتح السين على لفظ المصدر من (سحته)، و (السحت) بفتحتين، و (السحت) بكسر السين، وكانوا يأخذون انتهى. الرشا على الأحكام وتحليل الحرام.
وفي "اللباب": السحت كله حرام تحمل عليه شدة الشره. وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه لا محالة. ومعلوم أن حال كذلك. فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم. عن الرشوة أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم.
أخرجه وأخرجه الترمذي. عن أبو داود عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال الرشوة في كل شيء. فمن شفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما. فأهدي بها إليه، فقبل، فهو السحت. فقيل له: يا ابن مسعود: ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم؟ فقال: الأخذ على الحكم كفر! قال الله تعالى: أبا عبد الرحمن! ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون
فإن جاءوك يعني اليهود لتحكم بينهم: فاحكم بينهم لأنهم اتخذوك حكما: أو أعرض عنهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم، أي: فأنت بالخيار. وقد استدل بالآية من قال: إن وعن بعض السلف: إن التخيير المذكور نسخ بقوله تعالى: الإمام مخير في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم. وأن احكم بينهم بما أنـزل الله والتحقيق أنها محكمة، والتخيير باق.
وهو مروي عن [ ص: 1993 ] الحسن والشعبي والنخعي وبه قال والزهري، لأنه لا منافاة بين الآيتين. فإن قوله تعالى: أحمد. فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فيه التخيير. وقوله تعالى: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله فيه كيفية الحكم، إذا حكم بينهم: وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا أي: فلن يقدروا على الإضرار بك، لأن الله تعالى عاصمك من الناس: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط أي: بالعدل الذي أمرت به، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل: إن الله يحب المقسطين أي: العادلين فيما ولوا وحكموا.
روى عن مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن عمرو بن العاص إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا.