ثم أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت - بأن يبين لهم ما حرمه عليهم، فقال سبحانه:
[ ص: 2533 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[145] قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما أي: طعاما محرما من المطاعم: على طاعم أي: أي: طاعم كان من ذكر أو أنثى. ردا على قولهم: محرم على أزواجنا وقوله: يطعمه لزيادة التقرير: إلا أن يكون أي: ذلك الطعام: ميتة قال المهايمي: والموت سبب الفساد. فهو منجس، إلا أن يمنع من تأثيره مانع من ذكر اسم الله، أو كونه من الماء، أو غيرهما: أو دما مسفوحا أي: سائلا لا كبدا أو طحالا: أو لحم خنـزير فإنه رجس لتعوده أكل النجاسات: أو فسقا أي: خروجا عن الدين الذي هو كالحياة المطهرة: أهل لغير الله به أي: وإنما سمي (ما أهل به لغير الله) فسقا، لتوغله في باب الفسق، ومنه قوله تعالى: ذبح على اسم الأصنام ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق فمن اضطر أي: أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر: غير باغ أي: على مضطر مثله، تارك لمواساته: ولا عاد متجاوز قدر حاجته من تناوله: فإن ربك غفور رحيم لا يؤاخذه. وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة والمائدة بما فيه كفاية.
تنبيهات:
الأول: قال الغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوا من ابن كثير: ونحو ذلك. فأمر تعالى رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه إليه أن ذلك محرم. وأن الذي حرمه هو تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وما ذكر معها. [ ص: 2534 ] وما عدا ذلك فلم يحرم. وإنما هو عفو مسكوت عنه. فكيف تزعمون أنه حرام؟ ومن أين حرمتموه ولم يحرمه تعالى؟ وعلى هذا، فلا ينفي تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا. كما جاء النهي عن الميتة لحوم الحمر الأهلية - انتهى - وبالجملة فالآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيره. ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شيء آخر، ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير وغيرها. وذلك لأن هذه السورة مكية. فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم أيضا، طارئ. قيل: إذا حرم غير ما ذكر كان نسخا لما اقتضته هذه الآية من تحليله. وجوابه أن ذلك زيادة تحريم وليس بنسخ لما في الآية. فصح تحريم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير. ومن الناس من يسمي هذا نسخا بالمعنى السلفي. وقد بيناه مرارا. كالموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة
قال بعض الزيدية: وقد تعلق بالآية في تحليل لحم الحمر الأهلية. ابن عباس في لحوم السباع. وعائشة في إباحة كل شيء سوى ما في الآية. وعن وعكرمة أنه كان يبيح الشعبي; ويتلو هذه الآية. لحم الفيل
ولا تعلق لجميعهم بالآية؛ لأنه تعالى بين ما يحرم في تلك الأحوال. انتهى.
وقال السيوطي في "الإكليل": احتج بها كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور فيها. فمن ذلك الحمر الأهلية، أخرجه عن البخاري قال: قلت عمرو بن دينار يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حمر الأهلية. فقال: قد كان يقول ذلك لجابر بن يزيد: عندنا الحكم بن عمرو الغفاري بالبصرة. ولكن أبى ذلك البحر وقرأ: [ ص: 2535 ] (ابن عباس) قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية.
وأخرج عن أبو داود أنه سئل عن ابن عمر فقرأ: أكل القنفذ؟ قل لا أجد الآية.. وأخرج وغيره. بسند صحيح عن ابن أبي حاتم أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير؟ تلت: عائشة قل لا أجد الآية.
وأخرج عن أنه قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله في كتابه ابن عباس قل لا أجد الآية.. انتهى.
وأخرج عن أبو داود قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا. فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه. فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو معفو. وتلا: ابن عباس قل لا أجد الآية..
وذكرنا ضعف التعلق بهذه الآية على ما ذهبوا إليه.
قال في "فتح البيان": معنى الآية أنه تعالى أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرما غير هذه المذكورات. فدل على انحصار المحرمات فيها، لولا أنها مكية. وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات: وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع [ ص: 2536 ] وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب، ونحو ذلك. المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة.
بالجملة، فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات، كما يدل عليه السياق ويفيده الاستثناء، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات. وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره، فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء. وقد روي عن ابن عباس وابن عمر أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروي ذلك عن وعائشة; وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرها، مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد نزول هذه الآية. بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه. وقول مالك. (لكن أبى ذلك البحر جابر: في رواية ابن عباس) المتقدمة، أقول: وإن أبى ذلك البحر؛ فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف. انتهى كلام الفتح. البخاري
وفي "نيل الأوطار": الاستدلال بهذه الآية إنما يتم في وأما الحمر الإنسية فقد تواترت النصوص على ذلك. والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل، وعلى القياس. وأيضا الآية مكية. انتهى. الأشياء التي لم يرد النص بتحريمها.
وقد ثبت عن رجوعه عن التعلق بعمومها. ابن عمر
روى والإمام سعيد بن منصور أحمد عن وأبو داود نميلة الفزازي قال: وإنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ عليه: قل لا أجد .. الآية. فقال شيخ عنده: سمعت ابن عمر، يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خبيث من الخبائث. فقال أبا هريرة إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال. ابن عمر: كنت [ ص: 2537 ] عند
أي: والخبائث محرمة بنص القرآن، فهو مخصص لعموم هذه الآية.
وعن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجه ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله. فما وجدنا فيه حلالا استحللناه. وما وجدنا فيه حراما حرمناه. وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى. وقال: حديث حسن غريب. الترمذي
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولأبي داود (أي: يأخذ منهم عوضا عما حرموه من القرى). ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه. لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه. وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم (لحم) الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه. فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه.
هذا فسر محرما ب (طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها) وجعل الاستثناء منقطعا. أي: لا أجد ما حرمتموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر حتى ترد المحرمات الأخر؛ إذ الاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر. وغير والزمخشري لم يقيده بما ذكر؛ لأن الأصل الاتصال وعدم التقييد وأولوها بما قدمنا قبل. وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا. بمعنى: لا أجد [ ص: 2538 ] شيئا من المطاعم المحرمات في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال، إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة؛ فإني أجد حينئذ محرما. فالمصدر للزمان أو الهيئة. وفيه أن المصدر المؤول من (أن والفعل) لا ينصب على الظرفية. ولا يقع حالا؛ لأنه معرفة. والله أعلم. الزمخشري
الثاني: في قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما إيذان التحريم إنما بالوحي لا بالهوى. قال الشهاب: كنى بعدم الوجدان عن عدم الوجود. ومبنى هذه الكناية على أن طريق التحريم التنصيص منه تعالى. وتفسيره بمطلق الوحي استظهروه. ولذا قال: أوحي ولم يقل: أنزل.
الثالث: قال السيوطي في "الإكليل": استدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: على طاعم يطعمه على أنه فأخرج إنما حرم من الميتة أكلها. وأن جلدها يطهر بالدبغ. وغيره عن أحمد قال: ابن عباس فقالت: يا رسول الله! ماتت فلانة (يعني الشاة) فقال: فلولا أخذتم مسكها؟ فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما قال الله عز وجل: لسودة بنت زمعة قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنكم لا تطعمونه. إن تدبغوه تنتفعوا به. فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته، فاتخذت منه قربة، حتى تخرقت عندها. ماتت شاة
الرابع: استدل بقوله تعالى: مسفوحا على إباحة غيره؛ وذلك لأن الدم المسفوح هو ما سال من الحيوان في حال الحياة، أو عند الذبح - لا كالكبد والطحال - وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل. قال عمران بن جدير: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم، وعن القدر يرى فيها حمرة الدم فقال: لا بأس بذلك! إنما نهي عن الدم المسفوح.
[ ص: 2539 ] وقال لا بأس بالدم في عرق أو مخ، إلا المسفوح. إبراهيم النخعي:
وقال لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود. عكرمة: