فصل ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق " الرأي " و " الكلام " و " التصوف " وغير ذلك : كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب [ ص: 367 ] والسنة والآثار إذ العهد قريب . وأنوار الآثار النبوية بعد فيها ظهور ولها برهان عظيم وإن كان عند بعض الناس قد اختلط نورها بظلمة غيرها . فأما المتأخرون فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون . مثل من صنف في " الكلام " من المتأخرين فلم يذكر إلا الأصول المبتدعة وأعرض عن الكتاب والسنة وجعلهما إما فرعين أو آمن بهما مجملا أو خرج به الأمر إلى نوع من الزندقة ومتقدمو المتكلمين خير من متأخريهم .
وكذلك من صنف في " الرأي " فلم يذكر إلا رأي متبوعه وأصحابه وأعرض عن الكتاب والسنة ووزن ما جاء به الكتاب والسنة على رأي متبوعه ككثير من أتباع أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم . وكذلك من صنف في " التصوف " و " الزهد " جعل الأصل ما روي عن متأخري الزهاد - وأعرض عن طريق الصحابة والتابعين كما فعل صاحب " الرسالة " أبو القاسم القشيري وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي في " مناقب الأبرار " ; وابن خميس الموصلي في تاريخ وأبو عبد الرحمن السلمي الصوفية لكن أبو عبد الرحمن صنف أيضا " سير السلف " من الأولياء والصالحين . وسير الصالحين من السلف كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم من ذكرهم لأخبار أهل [ ص: 368 ] " الزهد والأحوال " من بعد القرون الثلاثة من عند إبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان ا لداراني ومن بعدهم وإعراضهم عن حال ومعروف الكرخي الصحابة والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة بمدحهم والثناء عليهم والرضوان عنهم .
وكان أحسن من هذا أن يفعلوا كما فعله في " الحلية " من ذكره للمتقدمين والمتأخرين . وكذلك أبو نعيم الأصبهاني أبو الفرج بن الجوزي في " صفوة الصفوة " وكذلك أبو القاسم التيمي في " سير السلف " وكذلك ابن أسد بن موسى إن لم يصعدوا إلى طريقة . عبد الله بن المبارك . وأحمد بن حنبل وغيرهم في كتبهم في الزهد فهذا هذا . والله أعلم وأحكم . وهناد بن السري
فإن من أعظم العلوم نفعا . إذ المرء ما لم يحط علما بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة . معرفة أصول الأشياء ومبادئها ومعرفة الدين وأصله وأصل ما تولد فيه : يسمون وكان " للزهاد " عدة أسماء بالشام " الجوعية " ويسمون بالبصرة " الفقرية " و " الفكرية " ويسمون بخراسان " المغاربة " ويسمون أيضا " الصوفية والفقراء " . [ ص: 369 ] والنسبة في " الصوفية " إلى الصوف ; لأنه غالب لباس الزهاد . وقد قيل هو نسبة إلى " صوفة " بن مراد بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت .
وأما من قال : هم نسبة إلى " الصفة " فقد قيل : كان حقه أن يقال : صفية وكذلك من قال : نسبة إلى الصفا ; قيل له : كان حقه أن يقال : صفائية . ولو كان مقصورا لقيل صفوية ; وإن نسب إلى الصفوة قيل : صفوية . ومن قال : نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله . قيل له : كان حقه أن يقال : صفية ولا ريب أن هذا يوجب النسبة والإضافة ; إذا أعطي الاسم حقه من جهة العربية . لكن " التحقيق " أن هذه النسب إنما أطلقت على طريق الاشتقاق الأكبر والأوسط دون الاشتقاق الأصغر ; كما قال أبو جعفر " العامة " اسم مشتق من العمى ; فراعوا الاشتراك في الحروف دون الترتيب وهو الاشتقاق الأوسط أو الاشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الأكبر . وعلى الأوسط قول نحاة الكوفيين " الاسم " مشتق من السمة . وكذلك إذا قيل الصوفي من " الصفا " وأما إذا قيل هو من " الصفة " أو " الصف " فهو على الأكبر . وقد تكلم بهذا الاسم قوم من الأئمة : وغيره . كأحمد بن حنبل
[ ص: 370 ] وقد تكلم به وغيره وأما أبو سليمان الداراني الشافعي فالمنقول عنه الصوفية وكذلك ذم مالك - فيما أظن - وقد خاطب به أحمد لأبي حمزة الخراساني وليوسف بن الحسين الرازي ولبدر بن أبي بدر المغازلي وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم ومن العباد أيضا من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وأهل الحديث والعباد ومدحه آخرون . و " التحقيق " فيه : أنه مشتمل على الممدوح والمذموم كغيره . من الطريق وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا وقد لا يكون وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في " الرأي " فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة و " القاعدة " التي قدمتها تجمع ذلك كله وفي المتسمين بذلك من أولياء الله وصفوته وخيار عباده ما لا يحصى عده . كما في أهل " الرأي " من أهل العلم والإيمان من لا يحصي عدده إلا الله . والله سبحانه أعلم .
وبهذا يتبين لك أن وإن كانت في الأصل مذمومة كما دل عليه الكتاب والسنة سواء في ذلك البدع القولية والفعلية . وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم { البدعة في الدين } متعين وأنه يجب العمل بعمومه وأن من أخذ يصنف " البدع " إلى حسن وقبيح ويجعل ذلك [ ص: 371 ] ذريعة إلى أن لا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ كما يفعل طائفة من المتفقهة كل بدعة ضلالة والمتكلمة والمتصوفة والمتعبدة ; إذا نهوا عن " العبادات المبتدعة .
" و " الكلام في التدين المبتدع " ادعوا أن لا بدعة مكروهة إلا ما نهي عنه فيعود الحديث إلى أن يقال : " كل ما نهي عنه " أو " كل ما حرم " أو " كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة " وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة . فأحد " الأمرين " فيه لازم : إما أن يقال : ليس ببدعة في الدين وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة . كما قال وما سمي " بدعة " وثبت حسنه بأدلة الشرع عمر : " نعمت البدعة هذه " وإما أن يقال : هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة ، وهذا قد قررته في " اقتضاء الصراط المستقيم " وفي " قاعدة السنة والبدعة " وغيره .
وإنما " المقصود هنا " أن أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه ; إما [ ص: 372 ] لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه وإما لعدم قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع وقررته أيضا في أصل " التكفير والتفسيق " المبني على أصل الوعيد . ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة
فإن نصوص " الوعيد " التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع . هذا في عذاب الآخرة فإن المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار أو غير خالد وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق يدخل في هذه " القاعدة " سواء كان بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية أو بسبب فجور في الدنيا وهو الفسق بالأعمال . فأما أحكام الدنيا فكذلك أيضا ; فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقا بدعوتهم ; إذ لا عذاب إلا على من بلغته الرسالة وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلا بعد قيام الحجة .