" وأفضل الأنبياء بعده إبراهيم " كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم " { إبراهيم خير البرية } " وقد ثبت في صحيح أن مسلم عن جابر { محمد صلى الله عليه وسلم } " . وكذلك كان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة الجمعة : خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي يخطب بذلك يوم الخميس كما رواه عبد الله بن مسعود البخاري في صحيحه . وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " { } " . [ ص: 503 ] { ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله أنس : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي : أف قط وما قال لي لشيء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته ؟ وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال : دعوه فلو قضي شيء لكان } " . وقال
وله الوسيلة في المقامات كلها ولم يكن حاله أنه لا يريد شيئا ولا أنه يريد كل واقع كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى بل هو منزه عن هذا وهذا قال الله تعالى : { ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلائق وسيد ولد آدم وما ينطق عن الهوى } { إن هو إلا وحي يوحى } وقال تعالى : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه } وقال تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } وقال : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } .
والمراد بعبده عابده المطيع لأمره ; وإلا فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبدون مخلوقون مدبرون . وقد قال الله لنبيه : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } قال الحسن البصري لم يجعل الله لعمل المؤمن أجلا دون الموت وقد قال الله تعالى له : { وإنك لعلى خلق عظيم } قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة : على دين عظيم . و " الدين " فعل ما أمر به . وقالت وأحمد بن حنبل عائشة : { } " رواه كان خلقه القرآن مسلم . وقد أخبرت أنه لم يكن يعاقب لنفسه ولا ينتقم لنفسه لكن يعاقب لله [ ص: 504 ] وينتقم لله وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه وأما حدود الله فقد قال : " { فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها } " أخرجاه في الصحيحين . وهذا هو كمال الإرادة ; فإنه والذي نفسي بيده لو أن وكره ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان ونهى عن ذلك كما وصفه الله تعالى بقوله : { أراد ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان والعمل الصالح وأمر بذلك ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } .
وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ولا ينتقم بل يستوفي حق ربه ، ويعفو عن حظ نفسه وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر . فيقول : " { } " وفي حق الله يقوم بالأمر فيفعل ما أمر الله به ويجاهد في سبيل الله أكمل الجهاد الممكن فجاهدهم أولا بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه كما قال تعالى : { لو قضي شيء لكان ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا } { فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا } .
ثم لما [ ص: 505 ] هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال جاهدهم بيده . وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن وهو معروف أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث احتجاج عمر بن الخطاب آدم وموسى لما لام موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب الذي فعله فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوبا علي قبل أن أخلق بمدة طويلة قال النبي صلى الله عليه وسلم " { آدم موسى } " وذلك لأن ملام فحج موسى لآدم لم يكن لحق الله وإنما كان لما لحقه وغيره من الآدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل فذكر له آدم أن هذا كان أمرا مقدرا لا بد من كونه والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر ; فإن هذا هو الذي ينفعهم .
وأما لومهم لمن كان سببا فيها فلا فائدة لهم في ذلك وكذلك ما فاتهم من الأمور التي تنفعهم يؤمرون في ذلك بالنظر إلى القدر وأما التأسف والحزن فلا فائدة فيه فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم أو حصول مضرة لهم فلينظروا في ذلك إلى القدر وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من المعاصي والإصلاح في المستقبل . فإن هذا الأمر ينفعهم وهو مقدور لهم بمعونة الله لهم .
[ ص: 506 ] وفي صحيح مسلم عن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { أبي هريرة } " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحرص العبد على ما ينفعه والاستعانة بالله ونهاه عن العجز وأنفع ما للعبد المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن . وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ; ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ; فإن لو تفتح عمل الشيطان وهي عبادة الله تعالى . وهذان الأصلان هما حقيقة قوله تعالى { طاعة الله ورسوله إياك نعبد وإياك نستعين } ونهاه عن العجز وهو الإضاعة والتفريط والتواني . كما قال في الحديث الآخر : " { } " رواه الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني الترمذي .
وفي سنن أبي داود : " { } " فالكيس ضد العجز . وفي الحديث : " { أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على أحدهما . فقال المقضي عليه : حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل } " رواه كل شيء بقدر حتى العجز والكيس مسلم . وليس المراد بالعجز في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يضاد [ ص: 507 ] القدرة ; فإن من لا قدرة له بحال لا يلام ولا يؤمر بما لا يقدر عليه بحال . ثم لما أمره بالاجتهاد والاستعانة بالله ونهاه عن العجز أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر ، ويقول : قدر الله وما شاء فعل ولا يتحسر ويتلهف ويحزن . ويقول : لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان . وقد قال بعض الناس في هذا المعنى : الأمر أمران : أمر فيه حيلة وأمر لا حيلة فيه . فما فيه حيلة لا يعجز عنه وما لا حيلة فيه لا يجزع منه . وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين .
كما ذكر ( الشيخ عبد القادر وغيره . فإنه لا بد من فعل المأمور وترك المحظور والرضا والصبر على المقدور . وقد قال تعالى حكاية عن يوسف : { أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } " فالتقوى " تتضمن فعل المأمور وترك المحظور . و " الصبر " يتضمن الصبر على المقدور . وقد قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا } - إلى قوله - { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر لا يضر [ ص: 508 ] المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين . وقال تعالى : { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } فبين أنه مع الصبر والتقوى يمدهم بالملائكة . وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم .
وقال تعالى : { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين ، وأهل الكتاب لا بد أن يؤذوهم بألسنتهم وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم الأمور . المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم وشر العدو المبطن للعداوة . وهم المنافقون وهذا الذي كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه هو أكمل الأمور . فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة